بقلم: د. صبري صيدم
ذكرت منظمة اليونسيف في تقرير لها، أن آثار إغلاق المدارس بسبب الجائحة، على تعلم الطلاب وصحتهم وفهمهم كانت مدمِّرة، وأن تداعيات ذلك ستبقى على الأطفال وأسرهم ومجتمعاتهم محسوسة لسنوات مقبلة، وأن كثيراً من الأطفال لن يعوضوا ما فاتهم أبداً. وأنه إذا كان بعض الطلاب قد تمكنوا من الوصول إلى التعلم عن بعد أثناء إغلاق المدارس، فإن ما لا يقل عن ثلث أطفال المدارس في العالم ليست لديهم الإمكانية للوصول إلى التعلم عن بعد على الإطلاق.
لقد فقد الطلاب نحو ترليونَيْ ساعة دراسية صفية. كما خلقت إغلاقات المدارس أزمات خفية للأطفال؛ إذ تأخروا في مسيرتهم التعليمية، فضلاً عما فات على كثير منهم من الواجبات المدرسية، وحصولهم على التطعيمات الواجب تناولها بشكل روتيني أثناء التحاقهم بالمدارس، كما باتوا يواجهون العزلة الاجتماعية، والتوتر والقلق المتزايدين، بالإضافة إلى سوء المعاملة والعنف، بالإضافة إلى تسرب بعضهم من المدارس، والتوجه إلى عمالة الأطفال، بل زواج الأطفال في بعض المجتمعات.
ولا شك في أن الكثير من الأهالي لم يتمكنوا من مواصلة الالتحاق بأعمالهم والمواءمة مع احتياجات أطفالهم في الرعاية والتعلُّم؛ إذ فقد بعضهم وظيفته بشكل كامل، الأمر الذي أدى إلى حالات الفقر، التي عمّقت الأزمة الاقتصادية في كثير من المجتمعات الإنسانية، كما أدى ذلك إلى آثار نفسية واجتماعية هائلة على أكثر من مليار طالب حول العالم، بالإضافة إلى المعلمين والمعلمات وأولياء الأمور.
لقد خاضت شعوب كثيرة، وبشكل مفاجئ تجربتها الأولى مع التكنولوجيا في التعليم وتجارب التعليم الإلكتروني قبل أن تكون مهيأةً لها؛ إذ لم يكن المعلمون وأولياء الأمور والطلبة في كثير من مناطق العالم، على معرفة مسبقة، في أغلب الحالات، بآليات وتقنيات التعليم الالكتروني، الأمر الذي أحدث إرباكاً في كثير من المجتمعات، التي حاولت جهات الاختصاص فيها إيجاد الحلول الممكنة والعاجلة لتسيير العملية التعليمية عبر مسار إلكتروني غير مكتمل الجوانب، الأمر الذي قد يكون له أثر إضافي في زيادة حجم الفاقد التعليمي. فهل يمكن للمجتمعات الإنسانية أن تعوض تلك الساعات التعلمية التي خسرها أبناء البشرية؟ وهل يمكنها تقليص الفاقد التعليمي الذي اتسعت فجوته؟
إن الإرث الثقافي والمعرفي الذي تبنيه البشرية عبر القرون يمثل مخزوناً لا يمكن تجاهله، إذ أنه عبر تراكمه يوماً إثر يوم يصبح مكوناً رئيساً في بناء الشخصية الإنسانية، في بعدها الثقافي والمعرفي والسلوكي، وتتناقله الأجيال في كل لحظة تعيشها البشرية. إن ما وصلت إليه التكنولوجيا من تطور عبر السنوات الأخيرة التي سبقت ظهور كورونا كان متميزاً، لكن ما ستصل إليه خلال السنوات المقبلة لن يكون بالدرجة ذاتها من التميز بفعل الفاقد المعرفي، ودخول من هم أقل كفاءة إلى سوق العمل. إنه لأمر يدعو إلى القلق لا محالة، لذا لا بد من سرعة الاستفادة مما راكمته البشرية من تطورات مهمة سبقت عصر كورونا، خاصة في مجالات التقانة والاتصالات والطب والتعليم والاقتصاد والمال والأعمال ومجالات الحياة كافة، بحيث تتداعى القيادات السياسية والمؤسسات الرقمية إلى توظيف الجهد الآدمي وذاك التراكم العلمي المذكور بشكل نافع، بما يعوض عن تلك الخسائر والفجوات، أو الفاقد المعرفي الذي أحدثته الإغلاقات المتكررة على مدى نحو عامين متتاليين.
في كل الحالات، لن يعود التعليم المستقبلي هو ذاك التعليم الذي عرفناه سابقاً، خاصة في ظل المواد المطروحة بكثافة عبر شبكات الإنترنت، والشروع بقوة في الترويج للتعلم عن بُعد وبشكل واسع في إطار مُشرَّع، من خلال مشاريع قوانين تصدرها دول كانت مترددة في العمل على التعلم عن بُعد، الأمر الذي سيؤدي إلى وضع الجامعات التقليدية العريقة في بيئة تنافسية شديدة في إطار اتساع التعليم الإلكتروني المفتوح وعن بُعد. إلا أن ذلك كله لن يعوض الفاقد التعليمي المعرفي الذي سينعكس على البشرية متسبباً في تأخر الأبحاث العلمية والتطور المعرفي، وتأخر بعض الصناعات التي كانت في طريقها إلى التطور النوعي والانتقال من عالم إلى عالم، خاصة في ظل منظومة الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحبية وغيرها من مخرجات التطور التكنولوجي الهائلة.
لذا علينا أن نراجع ما هو سابق، وأن ننظر إلى المستقبل بعين ثاقبة، إذ لا يجوز انتظار ما يجري حولنا لنقتبس منه ما قد يلائم حاجاتنا، بل علينا أن نستبق مستقبلنا لتكون متطلباته هي مهمة حاضرنا. إن علينا أن نمارس الإبداع والابتكار لضرورات المستقبل، بما يجعل العملية التعليمية أهم محاور التطوير بغض النظر عن استمرار الحالة الوبائية أو انتهاء أثرها. فتَمترُسُ البشرية أو أي فئة منها خلف موقف أو حالة أو رأي ما، بغض النظر عما هو جديد، قد يُقعِدها ويبقيها خلف الحاضر والمستقبل.
الأهم اليوم هو التمعن في ما ورد واستقاء الدروس والعبر تحضيراً لعهد جديد مع التعليم كما لم نعهده من قبل… للحديث بقية الأسبوع المقبل.