الكاتب: رافي مصالحه
على مشارفِ المخيّم تداعتْ مواسمُ البكاءِ والترقب والأرق والألم والتيه. لم يكن للبؤس الذي تناثر في أزقة المخيم وعلى سقوف الصّفيح ما يبرّره سوى أنه من بديهيات المكان والزمان التي تطلّ من كل الأركان القاتمة في نواحي هذه الثغرة الصارخة بالتناقضات.
كلّ الأيام متشابهة في فضاء المخيّم. الفراغ هو ذاته, ليالي الحرمان هي نفسها, أنفاس الأرواح العاشقة المشنوقة على حبل أزمنةٍ جامدة الملامح, هي عينها أيضا.
في مواسم الضجر الطويلة, وفي ليالي الأرق الشاحبة تحديداً, يكتب فتيان المخيم أحياناً عن أحلامهم الرمادية, ثم يدفنون رسائلهم تحت الثرى. لكن الرسائل التي لم تُكتب ولن تُكتب, أكثر !. حكايات الوجع الأبديّ التي لم تُسرد ولن تُسرد هي أكثر. وحياة الناس تغادر خلسةً وتتسلل هاربة من خلال الحاجز العسكريّ, فالمفارقة أن البشر هنا لاعبون ماهرون, وهم يمارسون لعبة الموت بتفوقٍ عجيب !.
خليل هو فلسطينيّ تقليديّ (ربما لا بمقدار تقليديّة اوبرا "توسكا" لبوتشيني !) قد أرّقه الضياع وعصف به صمت اليأس البارد فأنهكه وقرر أن يغادر ميدان المعركة في خريف ايامه المرتبكة التي لم تكن لها علاقة تذكر بالمواسم والفصول. أحبّ خليل ليلى. وليلى هي بنت المخيم (التقليديّة !) التي تسبح كحوريّة في بحر زاخر من الغموض وعدم الوضوح بين بدايات ونهايات تتزاوج وتفترق على ساحل البؤس الذي يلف المخيم.
كانت قبضتا الفاقة والعجز تخنقان خليل وترافقانه كانهما تجهزان عليه, لا سيما بعد أن قضى تسع سنين بين قضبان السجون لا لذنب إلاّ لعشقه الوطن. هل كان هذا العشق مجدياً ؟. . خرج خليل من أسره وفيضٌ جارفٌ من التساؤلات يجول في مخيلته. وأقسى ما أنهكه كان السؤال: أين هو الوطن, هل هو ذلك النفر الطاعن بالثراء الغارق بالعمالة من المتشدقين بحب فلسطين زيفاً ونفاقاً ؟ أمِن أجلِ هؤلاء ضاع عمري ؟ ليس هناك ما هو أشدّ إيلاماً من أن تكتشف مدى سذاجتك وكم كنت مغفلاً بعد فوات الأوان.
خرج خليل من السجن ولم يجد حتى "خبز ملةٍ" يسكت به جوعه وجوع أمّ وإخوةٍ ما انفك الزغب يكسو حواصلهم الغضّة. وإلى جانب كلّ النوائب رماه "كيوبيد" في قلب قلبه الخافق بالعشق بسهم حب ليلى, التي لم يتوقف قلبه عن تلك الرجفة الخافتة كلما رآها وهي تمرّ من أمامه في طرقات المخيم فينبعث من أعماقه لحنٌ جميلٌ يداعب أضلاعه, كأحاسيس نظيره من أساطير الإغريق العاشق "بيراموس" الذي نحر نفسه في سبيل حبّ الصبيّة الجميلة "ثيسبي". كانت مواعيده الوهميّة وعبارات الغزل التي انتظمت في خياله (والتي لم تصلها يوماً !) أكثر متعةً من أي لقاء بين محبي الكون قاطبةً. ليلى في فكر خليل كانت تجسيدا لفلسطين. كانت عينا ليلى السوداوان هما عينا فلسطين, وهو الذي قد براه الهوى وذاب حباّ بليلى, بفلسطين.
حاول خليل شق طريقه, كغيره, علّه يجد مكاناً في سوق النخاسة باسرائيل, حيث الفلسطينيّ كائنٌ كرسته أيدي الطبيعة للعبوديّة ضمناً وبشكلٍ لا يحتمل النقاش, فلا اسم له, ولا كيان ولا هويّة وهو لا يعني في هذا العالم المفرط بالقسوة أحداً. لم ينجح خليل في اختراق حواجز القهر التي تخنق شعباً بأكمله, فجال يفتش, دون فائدةٍ, عن قوته وعن آماله وطموحاته في أرجاء وطنٍ متهالكٍ قتلته الحاجة وأرْدَتهُ قلة الحيلة.
والدا ليلى لم يعنهما أن خليل يملك رصيداً يفوق السحاب في النضال وأن ما قدمه للوطن يجعله على رأس الشرفاء. لكن بيت النضال, ولو فرشته بذكريات الكفاح والدم, لا يصلح للسكنى وهذا الرصيد لا يحترمه المصرف الوطنيّ.
كلّ مواكب المنتشين بعزة الوطن رحلت من دون خليل, وخليل في رحلة فدائه, لم يبتعد لأكثر من نفسه. حكاية عشق خليل لفلسطين ولليلى كانت أروع من أن تدونها القصائد والقوافي, لكن هذا العشق لم يخلق لهذا الزمن, أو أحرى أن نقول: "إن هذا الزمن لم يخلق لهذا العشق".
على معبر القهر الذي يفصل بين ضفتي العدم اللا متناهي, المسمّى "معبر ألِنْبي", كان هجير الغور اللافح باللهب يمضغ ساعات انتظار خليل الذي غرقت حقائب سفره في محيط من زحام اللاجئين الباحثين عن كيانهم في الآفاق. سيل دافق من الهاربين من ظلمة الوطن, لا وجوه لهم ولا تكاد تعرف ملامحهم.
وعند المغيب, غاص خليل وغاب في سيل مسيرة المنكوبين, ولم ينظر خلفه, لا خوفاً من أن يصير عمود ملح, بل خشية أن تنكسر إرادته لدمعة ليلى التي ارتسم شبحها عند مخرج معبر الحدود....