بقلم: د. صبري صيدم
التزاماً بما وعدت به الأسبوع الماضي، أعود هذا الأسبوع لاستكمل وإياكم رسم الصورة المطلوبة لتحقيق الاستدامة المرجوة، والرفعة المعرفية العالمية المرغوبة التي ينتظرها التعليم حول العالم خاصة ما بعد كورونا.
انتفاضة حقيقة هي التي يحتاجها البشر في عالم اكتساب المعرفة وصناعة مخرجاتها، وذلك بغرض التحقق من استكمال واستقرار الجاهزية التقنية للتعليم، وتوافر البنى التحتية الرقمية الهائلة، وفق أحدث التكنولوجيات المتاحة للدول والمؤسسات والشركات، لتبقى قادرة على المنافسة في عالم ما بعد كورونا، أو غيره من الأوبئة، واتباع نهج شامل يتمحور حول الإنسان والإنسان وحده، بغرض حوكمة هذه التكنولوجيات وضبط إيقاعها.
فقد كشف الوباءُ جوانب الضعف لدى كثير من المجتمعات الإنسانية، التي لم تكن قادرة على ممارسة التعليم، واستمرار مسيرة المعرفة واستكمال مشروعات ومتطلبات رقمنة التعليم والتعليم المدمج، ليُعيد الوباءُ رسم خريطة التعليم العالمية ويلوّنها بألوان إلكترونية لم تكن البشرية تراها من قبل بوضوح، ولم تكن تتوقع أو تريد أن تعيش تجربة كهذه أتت على حين غرة، فأصبحت تفكر في كيفية جعلها خريطة الطريق للتعليم المستقبلي، الذي قد يكون نهجها المستدام وإلى الأبد. لقد أصبح مستقبل التعليم بحاجة كبيرة إلى محو الأمية الرقمية لدى أطراف العملية التعليمية كافة، من خلال إدماج التعلم الرقمي ضمن البرامج التعليمية، مع أهمية التركيز على الحماية الرقمية لمستخدمي التعليم والتعلم الإلكتروني، بالإضافة إلى أهمية إعادة النظر في مواءمة المباني التعليمية في عديد الجوانب.
إن على المجتمعات الإنسانية أن تحقق متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، التي سيكون من الصعب عليها التواؤم مع مستجدات الحياة من دون توفيرها، في ظل النظر إلى ارتباط هذه الثورة بالعملية التعليمية بأبعادها كافة، ومن أبرزها:
ـ التكنولوجيا المستجدة والبنية التحتية للمعلومات والاتصالات الموثوق بها.
ـ السياسات المبتكرة، إذ تحتاج الحكومات إلى تطوير السياسات الاقتصادية والصناعية وسوق العمل المستجيبة لدعم التحول الرقمي، مسنوداً بمنظومة قوانين رافعة وناظمة.
ـ التعليم والتدريب، حيث يتطلب التحول الرقمي نوعية جديدة من العمالة الماهرة التي تتميز بالابتكار والدراية التكنولوجية.
ـ تعزيز إدارة البرامج التربوية، من حيث:
1- إيجاد استراتيجية مشتركة بين وزارات التربية والتعليم العالي والقطاعات الحكومية والخاصة، التي تواكب التغيّرات المتوقعة في مختلف المجالات، وتسعى لتطوير عناصر المنظومة التربوية، في ظل توجهات الثورة الصناعية الرابعة.
2- تطوير برامج إعداد العاملين في المؤسسات التعليمية.
3- تبنّي وزارات التربية والتعليم العالي خطّة تدريبية متكاملة تهدف إلى تصميم البرامج والمنصات التعليمية والتدريبية لخدمة كل العاملين والمستفيدين من التعليم.
4- توجيه العاملين في جميع الوزارات والهيئات إلى التنمية الذاتية المستدامة، بما يؤهلهم لمواكبة العمل ضمن متطلبات هذه الثورة.
5- تزويد بيئة العمل بمكونات التقانة وتدريب العاملين عليها، وتنمية وعيهم ووعي المستفيدين من متطلبات التعلم في عصر الثورة الصناعية الرابعة، من خلال مختلف الفعاليات التربوية.
6-دعم العاملين، بتزويدهم بأدوات الابتكار والبحث العلمي للارتقاء بمهاراتهم في تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة...
7- إعداد برامج إعلامية هادفة لنشر ثقافة الثورة الصناعية الرابعة، والتركيز على البعد القيمي والاجتماعي والأخلاقي لمواجهة آثارها.
8- تركيز مؤسسات التعليم العالي على المهارات التي تواكب متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، ومواءمة مخرجات التعليم العالي مع حاجة سوق العمل.
إن الجيل الرابع من التعليم يحتاج اليوم إلى مهارات رقمية جيدة، وقدرات على التأقلم وتطويع التكنولوجيات المستجدة، كما يحتاج إلى تعليم يرتكز على الابتكار والمشاركة والإبداع والتجديد، والتفكير الناقد والمتطور وحل المشكلات، حتى يتمكن من التكيف مع عالمه المتغير. هذا الجيل يستند أيضاً إلى استخدام أهم التطورات التكنولوجية، كالذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وتحليلات التعلم والتعلم المفتوح، حيث يُمْكن التعلّم سواء داخل المؤسسات التعليمية أو خارجها، أي حينما وكلما وأينما وكيفما يشاء، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على تطوير القدرات بشكل مستمر وتشاركي من قبل الجميع مدى الحياة.
أصبح مستقبل التعليم بحاجة كبيرة إلى محو الأمية الرقمية لدى أطراف العملية التعليمية كافة، من خلال إدماج التعلم الرقمي ضمن البرامج التعليمية
وأخيراً، فإن التعليم لا ينفصم عن مجالات الحياة كلها، إن لم يكن هو مركزها وأساسها، لذا، فإن جميع التحولات الجارية بتأثير الثورة الصناعية الرابعة، تمس جوهر التعليم الذي لا بد لكل المعنيين به من اتخاذ جميع التدابير التي توفر للتعليم بيئة متوائمة مع المتغيرات الحياتية للبشرية.
لقد تندر الكثيرون ذات يوم على أهمية التحول الرقمي في التعليم، حتى أقام البعض أعواد المشانق للقائمين عليه بينما ذهب البعض لتمجيد التعليم التقليدي المستند إلى الورقة والقلم، في إطار ما عرف بمفهوم «العودة إلى الأصول»، إلى أن حلت مصائب التعليم مع مصيبة كورونا، فتقهقر هؤلاء أو بدأوا بالبحث عن حججهم الواهية لتبرير تقاعسهم السابق، وفشلهم الذريع. إنهم هم من يستحقون أن تنصب لهم أعواد المشانق المعنوية المهنية لدورهم التعطيلي التشكيكي الاستعلائي المقيت، ولمساهمتهم البائسة في تأثر جيل كامل بكوارث التعليم، جراء غياب الجاهزية الرقمية، وعليه فإن البقاء في التعليم وغيره من القطاعات لن يكون إلا للجاهز رقمياً.. فعلاً لا قولاً، وعملاً لا شعاراً.