الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

المفكر الفلسطيني د. علي الجرباوي: هل ينجح في محاولته؟ في كتابه "المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة: محاولة لفهم التاريخ"

نشر بتاريخ: 18/07/2022 ( آخر تحديث: 18/07/2022 الساعة: 19:32 )
المفكر الفلسطيني د. علي الجرباوي: هل ينجح في محاولته؟ في كتابه "المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة: محاولة لفهم التاريخ"



الكاتب: تحسين يقين
نجح الكاتب علي الجرباوي البرفسور والمفكر، في محاولته في فهم التاريخ أيما نجاح، في ظل ما امتلكه من فهم عميق تجلى في عرضه لما يمكن وصفه بالتاريخ الحضاري، وصولا تحليل ما يجري اليوم، مستشرفا الغد، وما يمكن أن يجدّ فيه من حضارة عالمية كبرى، بشرط الاستناد الطبيعي لمقومات الحضور.
احترت في جملة الافتتاح: هل أبدأ ب "اطلب العلم ولو في الصين"! لأشوق القارئ، بعد أن نسينا عربيا أهمية العلم وقيمته، التي دفعت ناطقا بالعربية، نصح طلب العلم ولو في الصين، كون الصين في ذلك الوقت هي أبعد مكان عن بلاد العرب، أم أنحى منحى إعلاميا مشوقا كأن أتساءل هل سيظهر كتاب كتابه "المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة: محاولة لفهم التاريخ"، للبرفسور علي الجرباوي باللغة الصينية؟
الصين أولا، وفرصتها هي الكبرى بحكم مشروعها المستند للقوة والثقافة، وثانيا ما يمكن يتجمع من تبعثر عربي وإسلامي، مستند لأيديولوجيا ناظمة، لكن بشرط السيطرة على الموارد، واللجوء لمعاير العصر؛ لذلك فإن الصين الواحدة المتماسكة تتقدم؛ فإن لم تصبح البديل العالمي للحضارة الغربية، فإنها ستستمر في منافستها بقوة على المشهد الدولي الآن وغدا، في حين أن التشرذم العربي التابع، والمستلب، والمحكوم بسلفية ماضوية، سيظل منحدرا الى الوراء غير مستثمر لإمكانيات النهوض من جديد.
لذلك، للصين فعلا أن تحتفي بهذا الكتاب، كونه يفسّر بموضوعية ما كان ويكون، ويبشّر بالحصاد لمن زرع.
هل سأتساءل؟ أم أمضي فيما ظننته بأنه في الوقت الذي يبشّر فيه بالصين، فإنه يدعو لتفعيل الأيديولوجيا الإسلامية وفق أسس العصر ومعاييره، كونها الناظمة الكبرى للعرب وآخرين، ليكون لهم موطئ قدم تحت الشمس، وفوق الأرض، في ظل الوجود الفاعل للرأسمالية الغربية، ومن سلك في فلكها كاليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما، والصين التي منذ ثلاثة عقود وهي تدق على باب المشهد الدولي بقوة، حتى غدت من أكبر مكوناته، بل والمرشحة إما للخلافة الغرب أو مشاركته؛ فكلما قرأنا في الكتاب سنجد أن هذا الإيحاء ظل هاجسا لنا، إذ كيف سنكون، وكيف سنثبت الذات القومية إن لم نهتم بخصوصيتنا؟
بموضوعية، والتزام قومي معا، انطلق الكاتب فيما يشبه الخلاصة الفكرية، متحليا بقيم التعاون لا الصراع والكراهية، ناظرا نحو مستقبل شراكة إنسانية، لا نجد أنفسنا خارجها.
ختم الكاتب مقدمته الغنية عن كتابه الفكري بكلمات انفعالية تكشف شعوره القومي: "ما زالت صرخة الشاعر إبراهيم اليازجي في مطلع قصيدته البائية الشهيرة تلقى الصدى بعد أكثر من قرن على إطلاقها:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
فيما ختم الكتاب بفقرات في صفحة 358 منها:
"لن يتغير الواقع العربي الا باعتراف العرب الصريح والإقرار المبين بالتخلف العربي عن ركب الحضارة المعاصرة والسعي غير المشروط أو المجزوء لاستيعاب قوانين العصر والعمل بموجبها. الحضارة الغربية هي محصلة التقدم الإنساني التراكمي عبر العصور وبالتالي هي ليست ملكا للغرب وانما هي ملك للبشرية جمعاء تعبر عن الاسنان الناجمة عن تفاعل الإنسان مع البيئة ومع غيره من البشر على مر العصور منذ وجد الإنسان نفسه على هذه الارض وعلى العرب عدم التخرج من الخوض في غمارها وتقبل مضامينها واستيعاب جوهر تقدمها وليس الاكتفاء فقط بالعيش المذياع على خامسها وفي كنف استهلاك منتجاتها"
وهو إذ يقرّ بأن "العرب في هذا العصر هم خارج التاريخ"، فهو يصف واقعهم: ب"عالم الحاضر الزائف المقولب في الماضي من دون مقدرة فهم على الانخراط فيه وفق أسسه ومعاييره الحاضرة". وهو يصف بروح ناقدة ونقدية حالنا التي تعاني:"ازدواجية المراوحة بين حياتين: واحدة تتمسك بشعائر ومظاهر تقليدية الحياة الماضوية، وواحدة أخرى تبدو في مظهرها عصرية، لكن عصريتها لا تتعدى استهلاك القشور التحديثية الهامشية، حياتان تحاولان الامتزاج مع بعضهما، لكن بلا أيديولوجية حاكمة أو منظومة قيمية متماسكة"؛ فأنه يقترح علينا تحسس طريق النهوض. حتى يطأ المستقبل، ينبغي فهم ما كان ويكون، والإرادة تقتضي ذلك، وليس في ذلك خيار.
حضارة الحضور
الذي بربط الحضور والحضارة، ليس فقط الجذر اللغوي، بل الجذر الأكثر عمقا، موغلا في الوجود الفاعل، ضمن الالتزام الوجودي الأكثر نبلا؛ فلا يمكن للحضارة أن تتأسس وتستمر وتزدهر، إن لم يتم توظيف الواحد للكل، الذي يعلي من كرامة الأفراد.
وهذا يقودنا الى العامل الذاتي الذي كان باعث مشروع المفكر العربي د. علي الجرباوي من فلسطين المحتلة، كمفكر عالمي، بما يتحلى به من صدقه الإنساني؛ فهو في الوقت الذي يعمل فيه لإنهاض (قومه)، فإنه يريد لهذا النهوض أن يكون إنسانيا؛ فلا تناقض بين تقوية الذات الفاعلة، والتعاون مع الآخرين، فلسنا وحدنا من يعيش على هذه الأرض.
وأزعم أن هذا الشعور قد نما مع الفتى مبكرا، بحب استكشاف مجتمعه العربي، حيث اتجه الى علم الاجتماع، وما نظن أن إقباله على الدراسات العليا في العلوم السياسية، إلا استمرارا لتلبية ندائه الداخلي، كشاب ينظر في تاريخه العريق، متطلعا لحضور متجدد لقومه، في ظل معايشته بوعي "للقطبين العظميين: الولايات المتحدة الأميركية ورأسماليتها، والاتحاد السوفيتي واشتراكيته"، في ظل غياب، قومه الذين بعد "الانتصار المعنوي للمنظومة الغربية، عندما أُعلن عن انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال جمهورياته العام 1991" تم اعتبارهم ودينهم الإسلام عدوا جديدا لهم، ينبغي محاربته.
الكتاب:
لقد أثار الكتاب تفكيرنا، فإذا وضعنا كل مصطلح هنا "المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة"، على حدة وفكرنا بعلاقته بالعنصرين الباقيين، ثم أدخلنا التاريخ كمتغير على المزيج، ترى ماذا سنقطف!
بمعنى، كيف ننظر للأيديولوجيا والحضارة من منظور المعرفة؟
وكيف ننظر للمعرفة والحضارة من منظور الأيديولوجيا؟
وكيف ننظر للمعرفة والأيديولوجيا من منظور الحضارة؟
أما مفكرنا على الجرباوي، فربط بين علاقة تراكم المعرفة المادية عبر الزمن، الناجمة عن استمرار تفاعل جدلية علاقة الإنسان مع البيئة ومع غيره من البشر، مع نوع الأيديولوجيات المنتجة تعبيرا عن ذلك، في العلاقة مع تكوين الحضارة. (ومعروف أن الزمان والمكان هما من أهم أبعد الإنسان، ووواقعيا وبلاغيا، فهما بما يحل فيهما من بشر وكائنات).
ماذا عن التاريخ؟
إنه يفترض "بأن التاريخ خط زمني متصل لا ينقطع، تتولى تفاعلاته وأحداثه تباعا نتيجة هذه العلاقة المستمرة والمتواصلة، والتي يعبر عنها بتكوين ثقافات محلية، يتحول بعضها إلى حضارات عالمية، تتوالى هذه الحضارات في خط سير متصاعد عبر العصور، يدلل على مجرى تطور الحياة البشرية، ويعكس ظاهرة ازدياد علمنة وعولمة العالم مع مرور الزمن".
وهنا لربما نقف عند "ظاهرة ازدياد علمنة وعولمة العالم مع مرور الزمن"، كونها كما نفهم، هي الخلاصة أمس واليوم وغدا، وهو ما يقف ضده المنتفعون من غياب العلمنة والعولمة بمعناها الإنساني الرحب.
أنسنة
عرض الكتاب تقريبا للحضارات والأفكار، حيث لا يظهر هنا كيف فهم هو التاريخ (أو حاول على حد تعبيره، بل يوحي لنا بشفافية وذكاء لنفهم ما كان، ويكون.
لقد أنسن الجرباوي التاريخ، حيث ظهر مضمون ذلك، خلال نقده للمركزية الأوروبية في الفصل الأول ما سماه، أو بالأحرى ما نحته ب "بتر التاريخ" (ظهرت هنا عدة منحوتات لغوية -فكرية خاصة به كمفكر)؛ فلم تبدأ الحضارة مع جنس معين، بل هي تراكمات، لذلك اختتم ذلك بنقد شديد لأفكار فرانسيس فكوياما حول "نهاية التاريخ"، وصامويل هنتنغتون حول "صدام الحضارات"، ومدرسة التحديث الأميركية فيما يتعلق بفكرة ديمومة إلحاق غير الغربيين بالغرب. لذلك راح ينحت مصطلحا آخر، هو"تدحرج التاريخ"، أي "محاولة إعادة التاريخ إلى سياقه الزمني الطبيعي، وتحقيق ذلك يتم بتسلسل زمني مختصر ومكثف، وتتبع لكيفية تطور جدلية العلاقة التي تربط الإنسان مع البيئة، مع العلاقة التي تربط الإنسان مع الإنسان".
في ظل الأنسنة الحضارية، فهو قد أعاد الحضارات طبيعيا الى تأثيرات "علاقة الإنسان مع البيئة ومع غيره من البشر"، من خلال تحليل كيفية تأثير محدودية المصادر المتاحة من البيئة للإنسان، على تطور ظاهرتي "تقسيم العمل" و"الملكية الخاصة"، وما أدى إليه ذلك من أثر على مستوى التعاون والتنافس بين البشر .
والمهم هنا هو قراءة واعية لدى الكاتب لأثر "تراكم المعرفة المادية وانحسار الغيبيات" على وعي الإنسان باتجاه العلمنة، أو ان العلمنة هي تجليات هذا الوعي. لذلك راح يتحدث عن عيش البشر ضمن نظريات العقد الاجتماعي. وهنا يشير بعمق الى صعود الحضارات وهبوطها، مستعرضا في الفصل الثالث: "ابن خلدون وأوزوالد شبنجلر وأرنولد تويتبي وكارول كويجلي.
وكأننا إزاء نظرة درامية، كما في عالم الأدب، فالأدب من الحياة، والتحولات فيه إنما تأتي من التحولات في الحياة، على ضوء المصالح والمنافع، باختلاف أن الواقع يستدعي مراعاة استحقاق العيش المشترك؛ وهنا يتحدث بعمق اجتهاده الخاص عن الثقافة والحضارة، حيث يجعلنا نفكر أيضا، ليكون لنا مثلا رأي في اعتبار الثقافة الشكل الأدبي الرفيع عن الحضارة، جنبا الى جنب مع الفنون.
البقاء والتمدد:
ولربما في هذا التسلسل الجميل، يصل في الفصل الرابع، الى الحضارات المتموضعة(نحت آخر له) والعالمية والإغريقية والرومانية، والحضارة العربية-الإسلامية، والحضارة الغربية، في سياق تأملاته عن مسار التاريخ، حيث نراه قد كثّف ذلك في إطار نظري يعبر عن كل هذا الوعي القادم من فهم شمولي، مشيرا الى تحول الحضارات المتوضعة الى حضارات عالمية، خلال ما أسماه أيضا ب "الانتقال الحضاري".
من القادم؟
يقارن الجرباوي بين ثلاثة أنماط مختلفة، تأتي كردود فعل من قبل الثقافات على التحديات التي تفرضها عليها الحضارة الغربية. وهي: العربية التي سمّاها بـ "الانفصامية العربية" كونها كما يقول: "ارتضوا القبوع على الهامش واستهلاك ما ينتجه الآخرون ولا يعترفون في المقابل بالتفوق الغربي دون المواجهة"، (ص 21 و318). أما الثقافة اليابانية فإنها تعرضت لتحول جذري بعيد ضرب الولايات المتحدة لمدن يابانية بالسلاح النووي، واحتلال أميركي لليابان حتى العام 1952؛ ما حفّز اليابانيين على طيّ صفحة الماضي والانضواء والمشاركة في ركب الحضارة الغربية واستيعاب نماذجها، (ص 327)، دون منافستها، ولكن بمشاركة فاعلة. في حين أن الثقافة الصينية هي الوحيدة والقادرة على منافسة الحضارة الغربية والولايات المتحدة الأميركية. فهي تمتلك أيديولوجيا عالمية التوجّه، ولديها تاريخ مرير مع الاستعمار الذي عرف بـ "قرن الإذلال" (1839 – 1949). ما منحها الدافعية للمنافسة والصعود الدولي في أقل من سبعة عقود منذ تأسيس الصين الشعبية العام 1949. كما أن القيادة الصينية الحالية لديها استراتيجية ورؤية للواقع الدولي لتحقيق بلوغ "العصر الجديد"، الطامح لرؤية مغايرة عن "العهد الأميركي" ومنطلقاته الاستعلائية التنافسية، تقوم على التعاونية والأخلاق... (ص 331). فهي لديها مقدّرات وثقافة (الكونفوشية) وحوافز ورغبة وقدرة. وينبه الجرباوي إلى أن تحوّل الثقافة الصينية لتصبح حضارة عالمية تزيح الحضارة الغربية؛ أمر ذو شأن معقّد ويحتاج لوقتٍ أطول قد يصل لقرون، وبذلك تكون تلك المسألة هي نظرة الجرباوي للمستقبل.
عودا على بدء، يقدم الجرباوي، في خاتمة كتابه، نظرة مستقبلية تتنبأ بأن الثقافة الصينية هي الوحيدة التي تمتلك المقومات الضرورية لتحدي الحضارة الغربية، وإنتاج حضارة بديلة تحل محلها، فإنها تنبه الى أن انبثاق وصعود الحضارة الصينية سيكون شأنا أكثر تعقيدا وصعوبة، وسيتطلب وقتا أطول بكثير مما تحتاج له الصين لبلوغ قمة النظام الدولي. ولكن مع ذلك، فإن العبرة التي يمكن الخروج بها من هذا البحث، هي أن جدلية العلاقة التي تربط الإنسان مع البيئة، والإنسان مع الإنسان، هي المحرك الأساسي للتاريخ، الذي ينثال متدحرجا، بديمومة واستمرار.
وهكذا، فإن من يفهم سيكون قادرا على إفهام الآخرين وتوعيتهم، وهكذا فعل الجرباوي في سفره المتميز عن فهم التاريخ. إنه الفهم العميق والحقيقي والأصيل، الذي مكنه من التفسير، والنقد، واقتراح الطريق، وهو فهم لا يشعر صاحبه لا بالتفوق ولا بالدونية، بل بالموضوعية والإنسانية.
وأخيرا، ها هي الصين تخطو الى الأمام، فكيف سيكون تموضعنا نحن العرب في هذا العالم؟ وهل سنستفيد مما أوتينا؟ وهل هناك محاولات جادة لاستعادة الدور من خلال البدء في فهم شروط العصر؟ وهل سيطول إهمالنا للعامل الأيديولوجي الذي يمكن أن يحدث فعلا لقوميتنا بعيدا عن التطرف والانغلاق؟
*د.علي الجرباوي هو مدير معهد إبراهيم أبولغد للدراسات الدولية، حاصل على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع، ودرجتي الماجستير في الإدارة العامة والعلوم السياسية، وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة سينسيناتي، وعمل في كلية العلوم السياسية في جامعة بيرزيت في العام 1981.
**صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ـــ 2021، ووقع في376 صفحة.

د. علي الجرباوي
د. علي الجرباوي