الكاتب: ديمة جمعة السّمّان
عندما يبدأ اثنان بتبادل الرسائل، وهما لم يلتقيا وجها بوجه، بل ولم يزد تعارفهما عن لقاءات افتراضية عبر ندوة ثقافية أسبوعية.. قرأ كل واحد منهما قصائد للآخر ضمن برنامج النّدوة الأسبوعي، فشعرا أنّ ثمة ما يجمعهما، شعر كلّ واحد منهما أنّ نصوص الآخر لامست وترا حساسا يسكنه، فخرجت آهة وجع انطلقت من قلبين ينبضان بحب الوطن.
جاءت الرّسائل تحكي مشاعر الغربة بكل مكوّناتها، إذ أن الغربة لا تقتصر على المكان فحسب، بل قد تشعر بأعلى درجات الغربة وأنت في قعر بيتك، عندما يسلبك المحتل أبسط حقوقك، عندما تجد نفسك وحيدا دون أهل بفعل سياسة التّهجير الممنهجة التي يتبعها المحتل؛ ليسلب الوطن وما فيه من كنوز، ويحرم أهله من حقوقهم على مرأى من العالم أجمع، ولا منصف يقول كلمة حق، يعمل على إعادة الحقوق إلى أصحابه.
" وطن على شراع الذاكرة" رسائل كتبت بالدّموع، تبادلها الدّبلوماسي الشاعر د. عمر كتمتو الذي هجّر من مدينته عكا عام 1948 وهو لا زال طفلا بسن الخامسة، اختلطت عليه مشاعر غربة المكان وذكرياته تحت شجرة التّين في حديقة المنزل، والتي شكّلت لهم مظلّة وحافظة أسرار.
تبادل كتمتو الرّسائل مع المربية الشاعرة د. روز اليوسف شعبان التي بقيت أسرتها في بلدتها طرعان في عام النّكبة ولم تهاجرها، إلا أنّها عاشت نوعا آخر من الغربة، ألا وهي الغربة الاجتماعية، إذ أن معظم أفراد عائلة زوجها هجّروا من حطين إلى الأردن وسوريا ولبنان، وبقيت أسرة زوجها الصّغيرة كالغصن الذي انفصل عن الجذع. وقد ظهر هذا واضحا جليّا عند ابنها البكر هشام الذي عبّر عن مشاعر الغربة في كتابة واجب "الانشاء" في مدرسته، إذ تحدّث بإسهاب عن تلك المشاعر.
من الملاحظ أن الكاتبة شعبان كانت تخاطب صديقها عبر الرّسائل، إما صديقي المغترب أو المهجّر أو صديقي في المنفى، وكان الكاتب كتمتو يخاطب صديقته بِ صديقتي في الوطن.
لم تأت صيغة المخاطبة هذه صدفة، بل حملت دلالات عميقة جدا، إذ أن الرسائل لم تكن شخصيّة بقدر ما هي عامّة، تنقل مشاعر المغتربين مكانيّا وهم خارج الوطن، تماما كما تنقل مشاعر الغربة الاجتماعيّة والوطنيّة لمن يعيش داخل الوطن تحت نير الاحتلال الغاشم.
رسائل قوية ومؤثّرة، كان وقعها على نفسي أشبه بوقع رواية عائد إلى حيفا لعميد أدب المقاومة الشّهيد غسان كنفاني.
الشاعر كتمتو وصف مشاعر الطفل الذي لا زال يسكنه عندما عاد عام 1994 إلى مدينته عكا لأول مرّة بعد تهجيرهم، تلك المشاعر التي حملت عذابات 45 عاما من الانتظار، والتّرقب.
كان وصف اللقاء مع جارة الطّفولة فاطمة يهزّ المشاعر. لم يجرؤ كتمتو أن يكتب رسائله بضمير الأنا، كتبها بضمير الغائب، كتبها عن الطفل عمر، وكأنّه يختبىء خلف هذا الطّفل الذي لا زال هناك يستظلّ بشجرة التّين، ويترك حقيبته تحتها، ويلهو على شاطئ بحر عكا يداعب أمواجه. ربما خشي إن تحدّث بلسان الكهل أن تختفي بعض الصّور من الذّاكرة، فتمسّك بالطفل يستعين به لاسترجاع الماضي بتفاصيله.
من يقرأ الرسائل يشعر بالتّناغم الكبير بين الكاتبين، الكاتبة شعبان تسمع بحر عكّا ينادي صديقها المغترب، فتنقل له النّداء بأمانة، وتسأله إن كان سيلبّي النّداء.
تزور بيته القديم في عكّا- بيت الطّفولة - هي وزوجها وترسل لصديقها الصّور، تعلمه أن ذكراه لا زال هناك.
استعانا بالشّعر، فأخذهما الى عوالم الماضي والذّكريات.
كان كتميتو يستشهد ببعض من أشعارها، وهي كذلك، كانت تستشهد ببعض من أشعاره. فيلتقيان في نقطة تؤكّد أنّهما نتاج شعب منسوج من خيوط متماسكة وعيون لا تحتاج إلى مصابيح النّور. شعب يعرف الطّريق إلى البحر والعنب والزّيتون والرّمان والقمح والحبّ والفرح والألم الذي لن يفارقهم.
رسائل كانت قصيرة، لم تثقل على القارىء، كانت شيّقة، مليئة بالمعاني والمشاعر الجيّاشة، حملت كل منها "عنوان" يحمل دلالات، يؤكّد على ما جاء فيها.
العمق ميّز رسائلهما، فحملت قضيّة وطن بكل ما فيها من ألم وأمل.
هنيئا لنا بهذه الرّسائل التي تشكّل حتما إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، إذ أنّ فنّ كتابة الرّسائل تضاءل في الفترة الأخيرة، ولكنّي ألحظ أنّه يعود تدريجيّا بقوة، فيرتدّ له اعتباره، ليعوّض الفترة الّتي هجرها القلم.