الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ونحن نحتفي بمدينة إربد عاصمة الثقافة العربية

نشر بتاريخ: 30/07/2022 ( آخر تحديث: 30/07/2022 الساعة: 17:38 )
ونحن نحتفي بمدينة إربد عاصمة الثقافة العربية



الكاتب: تحسين يقين
يأتي تتويج مدينة إربد كعاصمة الثقافة العربية، تتويجا لرحلتها العظيمة، فهي العاصمة الثقافية للأردن الحبيب، وهي محج عشرات الآلاف من الطلبة الأردنيين والفلسطينيين والعرب.
إنها إرادة الأردنيين المخلصين المحبين لحواضر الأردن الحديثة والمعاصرة، ومنحها ما تستحق من عمل وتكريم وفرص. وإنها إرادة أهل إربد ومن حولها، وحبهم للمكان وطموحهم للفعل، لذلك تقاطع العامل الموضوعي بالعامل الذاتي لتصبح إربد من أهم المدن العربية في التعليم العالي والحداثة، بل والتنمية السياسية.
نبتت فكرة هذا المقال من أمرين: موضوعي وذاتي، وهما مرتبطان ببعضهما بعضا؛ فأما الموضوعي، فهو أن إربد الحبيبة، تعتبر العاصمة الثانية للمملكة، ولعل مكانها في أوائل العشرينيات بما حولها من خصوبة أرض، كان مؤهلا أيضا ليكون مركز الإمارة والمملكة فيما بعد، لولا تطرفه في الشمال، وهكذا اكتملت المدينتان ونمتا: عمان القلب وإربد القلب الآخر، كما حواضر الأردن الأخرى، الكرك والسلط؛ فدوما تثبت إربد دورها التنويري الوطني والقومي. في حين كان العامل الذاتي هو تأثري العميق بزيارة اربد، مشاركا في مهرجان عرار، حينما تحدثت عن الدور التنوير لمصطفى وهبي التل الشاعر والمناضل الوطني والقومي ابن تل إربد العالي؛ حيث لاحظت وجود العدد الكثير من الطلبة العرب الملتحقين في جامعات إربد، الذين واللواتي تحدثوا عن جامعاتهم باحترام وتوقير، في الوقت الذي أظهروا كبير حب لإربد المكان والسكان.
وبالتالي، فإربد تأثير حضاري نهضوي معاصر وتكنولوجي بشكل خاص، ليس على الأردن وفلسطين، بل على الدول العربية.
لعل الجغرافيا، وموقع البلاد تقودنا دوما إلى ما يمكن ملاحظته تاريخيا، عن نمو الحضارات جنوبا وشمالا، وذلك الانتقال باتجاه الوسط والشمال، لكن في حالة إربد، كمنطقة من بلاد الشام، فإنها تعدّ شمال الأردن وفلسطين، وجنوب بلاد الشام (سوريا)، وهي قلب نابض أيضا، فقد كانت بداياتها منذ 5000 عام، من خلال حضارات المكان نفسه، ولم يكن الرومان ليختاروها عبثا حين بُنيت في موقع متوسط بين مُدن حلف الديكابولس العشرة التاريخية. كما لم يكن من الصدفة أن تصبح في العهد العربي مركزاً من مراكز الفتح الإسلامي، حيث تمت استعادتها حضاريا، في فترة مبكرة من الدولة العربية الحديثة، بعد معركة اليرموك الشهيرة، وهكذا، اقترنت إربد بتوأم آخر، هي دمشق، المركز العربي الثاني، وهو مركز فتيّ متدفق، راح يؤثر بالتالي إيجابيا على ثقافة المكان.
لعل تل إربد من أكبر التلال التي أقيمت هنا، ولم يكن ذلك أيضا صدفة، حيث ان طاقة المكان، بما فيه من خصوبة وطيب هواء، يدفع الإنسان نحو العيش فيه، ولو انتقلنا تاريخيا ألف عام أو يزيد، وصولا إلى أواخر القرن التاسع عشر، فسنرى كيف تشهد البلدة انطلاقة أخرى.
المكان والأزمنة؛ حيث السهول تعانق الجبال، في اكتمال لجمال الطبيعة، وجمال موقع البلدة المطلة شمالا على سوريا، وغربا على فلسطين، خلق حالة سكانية فريدة من نوعها، لعله التعبير الأردني العروبي منقطع النظير.
الحالة السكانية الفريدة، والمكان المتوسط والجميل، جعلت إربد في بدايات القرن العشرين مكان جذب فعلي للعيش، وبالتالي للعب دور حضاريّ هام فيما بعد.
طبيعة التنوع السكاني، بأصولهم الريفية والحضرية، جعلت شعبها جادا في التطوير وإثبات الذات المبدعة، فقد عاش أهل اربد ومحيطها مع الوافدين العرب من فلسطين إثر نكبة عام 1948 ونكسة عام 1967، فكانت الحضن الأكثر دفئا، وهي اربد الغالية التي جادت بالدفاع عن فلسطين والقدس، فكان الشهيد وصفي التل أحد أبطال معركة القدس، وهو ابن الشاعر المناضل مصطفى وهبي التل، ومعهم آخرون، وقد كان احتضانهم لأخوتهم غرب النهر احتضانا أصيلا، لربما نفرد له مقالا آخر يفي اهل اربد دورهم القومي، بل الوطني كون الضفتان مرتبطتين عضويا كما لم ترتبط بلاد بأخرى.
كما كانت وما زالت بلد الوافدين من سوريا ولبنان، كونها قلب من قلوب بلاد الشام، وكونها كذلك فقد صارت مكانا للعراقيين. والجميل في ذلك كله هو حرص المواطنين جميعا على جعلها وطنا ومستقرا، فراح المزيج الجميل يبدع في التعمير والإعمار، ولم تأت سنوات السبعينيات، حتى تأسست فيها واحدة من أهم الجامعات العربية، التي لم تكن لتحبو بل راحت تمشي وتركض، فإذا إربد (ميريلاند الأردن المعتمدة في اقتصادياتها بشكلٍ أساسي على الموارد البشرية)، تصبح المهد العربي للعلوم والتكنولوجيا، حيث تأسست جامعة العلوم والتكنولوجيا في منتصف الثمانينات، فقط بعد عقد واحد من الوجود ضمن جامعة اليرموك الفتية، التي كانت الجامعة الأردنية الثانية في المملكة.
صحيح أن الجامعات في إربد جعلت المدينة مكان جذب للكثير من الأعمال، لكن الحق يقال إن الجامعات هي من اختارت المدينة مكانا للتفرغ العلمي، والتي جذبت كمكان أيضا الطلبة والعلماء للدراسة والعمل.
وتزهو إربد اليوم بالمكتبة الحسينية في جامعة اليرموك، التي تعد من أكبر المكتبات في الشرق الأوسط، لما لذلك من دليل نهضوي، حيث انتشرت هنا أيضا دور نشر الكتب، وفيما بعد صارت، وهي أرض التكنولوجيا الأردنية المتميزة عربيا، تحوي أكبر عدد من مقاهي الانترنت؛ فعدد مقاهي الإنترنت للفرد هو الأعلى في العالم، وبذا فقد دخلت المدينة موسوعة غينيس للأرقام القياسية في هذا المجال
لقد كان تفكير الملك الحسين بن طلال الملك الباني والمؤسس، مدفوعا بروح أربعينيات الشباب في منتصف السبعينيات، تفكيرا استراتيجيا أردنيا وعربيا، حين أسس الجامعة اليرموك، الجامعة الأم في إربد، ليتناسل منها 3 جامعات فيما بعد، خصوصا جامعة العلوم والتكنولوجيا؛ فقد كان استشراف الملك للمستقبل يستدعي البدء في التكنولوجيا، ولم يمض عقد من الزمان، حتى أصبح السوق العربي والأردني سوقا طالبا لهؤلاء الخريجين والخريجات، فيما كان لتأسيسها في أربد صدى في القدس، حين تأسست كلية العلوم والتكنولوجيا في بلدة أبو ديس شرق القدس، فكانتا من أوائل الجامعات المختصة بعالم الحاسوب، حيث كان لهما، دورا في النهضة المعاصرة منذ أواسط الثمانينات تحديدا.
وبالطبع كان لجامعات أربد الدور الأساسي، لما تميزت به من مكان جاذب، حيث لم تهدي إربد فقط خريجيها الأردنيين والفلسطينيين للعالم العربي، خاصة في الخليج العربي والمملكة العربية السعودية، بل فتحت أبوابها لعشرات الآلاف من الطلبة العرب للدراسة.
من ناحية أخرى، فقد كان لإربد الأردن والعرب، دور فكري وسياسي على طلبة الأردن وفلسطين، لما تتميز به من انفتاح ثقافي، باتجاهات وطنية، وديمقراطية، فمنها انطلقت العقول على جانبي النهر، للتحدث في قضايا الديمقراطية والمواطنة والحريات؛ فلم يكن من الغريب أن يكون خريجوها في الضفتين، دعاة وطنيين أصليين لكل عوامل التحديث والنمو السياسي باتجاه العدالة الاجتماعية، فكان إربد المكان حاضنة لتلك العقول والأفكار، وبالتالي وجدنا ارتباطا مباشرا ما بين العمل الوطني والعمل نحو العدالة، كونهما غير مجزئتين. لقد شارك خريجو جامعات إربد بشكل خاص، والجامعات الأردنية بشكل خاص في كل الأعمال الوطنية، وكانوا دوما في طليعة التنوير التربوي والثقافي والتنمية السياسية، ولعل استئناف الحياة الديمقراطية البرلمانية في المملكة، بعد تجميدها لعقد ونصف إثر هزيمة عام 1967، إلا استشرفا من جلالة الملك الحسين رحمه الله، حينما قرأ بحكمته التحولات التي تحدث في المملكة، حيث كانت جامعة اليرموك من روافع العمل الوطني والسياسي.
واليوم في ظل انتشار الجامعات في الأردن وفلسطين، نجد أن المؤسسين والمشاركين فيها، هم جزء من إربد، مصنع العلماء والمتنورين.
أما الغد، فهو جميل، فالبلد الصغيرة صارت مدينة حديثة معاصرة، وهي في مرحلة نمو لا يقتصر دورها على الأردن وفلسطين، بل والبلاد العربية، والعالم؛ فحين أصبحت الأردن رقم واحد في عالم الكمبيوتر عربيا، لم يكن ذلك من فراغ، بل كان بسبب العمل الجاد الذي نبت ونما وأزهر في إربد.
دوما نظرت إربد غرب النهر بحب وحنين وشوق، وهي الآن تنظر في كل الجهات حبا بأبناء العروبة، لتكون لا ملجأ فقط، بل وطنا كريما، تزهر فيه النفوس وتبدع.
ولعل تأثير إربد على نهضة الأردن وفلسطين المعاصرة أمر جدير بالتعمق والدراسة، من خلال عمل ندوة علمية تشترك فيها من تحب من جامعات الأردن وفلسطين، خصوصا ونحن نحتفي بإربد عاصمة للثقافة العربية، لما كان لها من خصوصية ظاهرة في النموين التكنولوجي والسياسي؛ حيث تقاطعا في آخر عقدين، فيما يعرف بالأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
وأخيرا، ليس هناك انقطاع ولا تفكيك بين العامل الوطنية والقومية، وبين العمل باتجاه مجتمع المواطنة والحريات، جنبا الى جنب مع التطور التقني والتكنولوجي، وهنا يحضر شاعر الأردن وفلسطين مصطفى وهبي التل، الذي كان من أوائل الشعراء العرب، الذي تحدث عن التحرر الوطني مقرونا بالعدالة والحرية والتنوير والحداثة. تلك هي أربد المنظومة المميزة التي جمعت كل ذلك وأكثر، وهذا الحب والانتماء العربي والإنساني.
[email protected]