بقلم: د. صبري صيدم
أطل علينا قبل أيام مجموعة من السفراء والقناصل السابقين البريطانيين، برسالة نشرت عبر وسائل الإعلام البريطانية يطلبون فيها من ليز ترس وزيرة الخارجية الحالية والمتنافسة الرئيسية على عرش حزب المحافظين ورئاسة الحكومة البريطانية خلفاً لبوريس جونسون، عدم الإقدام على نقل سفارة بلادها إرضاءً للوبي الصهيوني في بريطانيا.
الرسالة جاءت على شكل خطاب موجه لرئيس تحرير إحدى الصحف المحلية، في ما بدا وكأنه خطاب للشكوى والتنبيه من عواقب تلك الخطوة الخطيرة. ولعل قائمة الموقعين تدلل على طبيعة وخلفية هؤلاء وقراءتهم الدقيقة للمشهد، الناتجة عن خبرتهم الغنية في دول خدمتهم السابقة، لتضم هذه القائمة كلا من السير جيرمي غرينستوك مندوب بريطانيا السابق لدى الأمم المتحدة، والسير فينسنت فين القنصل البريطاني العام في القدس، واللورد غرين السفير البريطاني السابق لدى العربية السعودية، والسير ريتشارد دالتون السفير البريطاني السابق لدى إيران، والسير هارولد ولكر السفير البريطاني السابق لدى العراق، والسير وليم باتيه السفير البريطاني السابق لدى أفغانستان، وروبن كيلي السفير البريطاني السابق لدى تونس، والسير إدوارد كلي المفوض البريطاني العام السابق لدى كينيا.
ولعل ما كتبه هؤلاء لم يأت في إطار التحليل والترف الفكري، وإنما في إطار التحذير والتنبيه من الكارثة المرتبطة بهذه الخطوة، خاصة لما تحمله من دلائل مهمة مفادها، أن بريطانيا لم تتعلم أبداً من التاريخ وما ألحقته بالشعب الفلسطيني والعربي برمته، جراء وعد بلفور وما تبعه من تنازل الإمبراطوية، التي لم تغب عنها الشمس المزعومة ذات يوم، عن فلسطين وما أعقب ذلك من نكبات ونكسات وكوارث سياسية مخيفة.
وقد شمل التحذير الإشارة إلى الانزلاق الخطير في معترك تنافس ترس الانتخابي المرير مع غريمها اللدود الهندي الأصل وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك والبدأ بتقديم هدايا مجانية في حربهما الاستقتالية المستعرة لخلافة جونسون، وما ستجره هذه الخطوة من عواقب كارثية وخيمة ليس فقط على مستوى فلسطين، بل على مستوى علاقات بريطانيا نفسها ليس مع الزعامات المنبطحة في معركة التطبيع، بل مع الشعوب التي ترى بأن بريطانيا إنما هي مسؤولة عن كل قطرة دم ودمع ذرفت من أجل فلسطين.
إن نزوات البعض وطموحاتهم التي تحققت بإهداء ما لا يملكون لغيرهم إنما تجدد تلك النزعة الكولونيالية السابقة، التي تشطب شعباً أو شعوباً بأكملها لقاء الظفر بالموقع أو المال أو الدعم الانتخابي الملحوظ، إضافة إلى أنها تعيد للأذهان ذلك الارتباط الوثيق بما عرف بصفقة القرن، التي التصقت بالرئيس المهزوم دونالد ترامب. إن نقل السفارة ليس كما زيادة المساعدات العسكرية، أو كما تطوير العلاقات الاقتصادية، وإنما هو بمثابة نسف كامل للمواثيق الدولية والموقف البريطاني الدائم من قرارات الشرعية الدولية وموقفها من القدس، ومن سبل حل الصراع المستندة للقرارات الأممية! هو تغيير جذري متساوق مع رغبات حكومات الاحتلال الإسرائيلي، التي تعتقد أن حل الصراع بالإكراه ربما يجعل الفلسطينيين يذعنون.
إن ثبات الفلسطينيين على أرضهم ورفضهم للاحتلال لعقود طويلة إنما يؤكد أن الكبار وإن ماتوا، فإن الصغار حتماً لن ينسوا ولن يسامحوا، بل سيستمرون حتى التحرير والخلاص والدفع باتجاه التعويض الشامل عن حقوقهم المسلوبة وحياتهم المنكوبة.
إسرائيل تمتلك اليوم الجرأة الواضحة على الضغط عبر لوبياتها للاستيلاء على المزيد من حقوق الفلسطينيين، وهو ما يقود إلى استمرار إشعال النيران في المنطقة، وما سيساهم في استدامة حالة الحرب القائمة، فهل سيكون العالم جاهزاً لتحمل هذه الفاتورة الثقيلة من أجل تحقيق نزوة إحداهن للوصول إلى كرسي السلطة؟ وهل ستكون بريطانيا جاهزة لعهد قائم على القطيعة مع مواقفها السابقة، التي كانت جزءاً من مواقف الاتحاد الأوروبي من أجل تلبية طموح ترس وطموح اللوبي الصهيوني، مقابل قرن آخر من اللاعتذار عن وعد بلفور والمزيد من المآسي والانتكاسات؟