الكاتب: تحسين يقين
فعلها مزارعو العنب الشباب..
قطوف العنب تقدمت تستقبل الزوار.
وتقاوم ببسالة لتحقيق أجمل بقاء نبيل وطني وإنساني.
سيقول صديق أو عدو: يستحق الدقاقوة الأرض، التي حولوا انحدارها الى حبايل ومصاطب تنتج الشهد.
في يوم ربيعيّ، كنت والحاجة نعمة أختي، المشهورة بحارسة الكروم، "نحش الحشيش"، أي نزيل الأعشاب الضارة من الأرض، وكانت هناك دورية للاحتلال تمرّ على طول مقطع الجدار العنصري، وصادف أن هطل المطر، فقلنا "غيمة ومارقة"، وبقي كل واحد في مكانه، مستمرا في "الحش"، في حين انتبهت لنا للدورية حيث وقفت على مرتفع، وراح جنود الاحتلال يتفحصوننا، يبدو كانوا يشربون الشاي أو النسكافيه الساخن، واستمر هطول المطر، وبقينا على حالنا، ف"نقعنا مي"، خف المطر، ثم بعد أقل من ساعة ظهرت الشمس بأشعتها لتجفف الماء عنا. حين انتهينا أشعلت نارا، وأكلنا خبزنا وزيتنا.
تخيلت حوار الجنود:
- مجانين!
- ......
- ألا يخشون المطر؟ لماذا بقوا يعملون؟
- ............
هل همس أحدهم أم قالها صراحة لهم: هؤلاء المجانين يستحقون هذه الأرض!
- الأرض لهم..
- ..........
عبث هذا الجدار الواهم، عبث هو الاحتلال، عبث هو الاستيطان، كل هذا الوجود القائم على قوة السلاح عبث.
حقيقة هذا العنب، والشجر والاخضرار، وتلك السناسل التي تقدمت يوما تقاتل، حتى أن مهندسي الجدار العنصري رضخوا لها..
جدار الفص العنصري شرق وشمال بيت دقو، جعله الاحتلال كمنطقة حدودية غريبة؛ فهم حددوا المكان، لكنهم لا يبقون خلفه، بل يدخلون دوما الى الأرض والناس ليعبثوا ببيوت الأطفال والفتيان، اللذين تتهمهم سلطات الاحتلال بإلقاء الحجارة على الجدار!
ليست رومانسية أدبية أبدا!
كان الشعار جاهزا..
"قطف عنب"، داخل الشعار الوطني، في بداية انتفاضة الحجارة عام 1987، حين تجمع الشباب في تأسيس جمعية بيت دقة للتتنمية والتطوير.
حين رأيت أوراق الجمعية بهذا العنب في إطار الشعار التحرري، قلت في نفسي تلك هي العبقرية الكنعانية.
للعنب سحر خاص، حتى إن الناس يحيون بعضهم في بلاد كثيرة بمساء العنب!
وهم يجيبون عن سؤال الحال بكلمة: عنب!
- بتحب العنب؟
- بنتي!
- في أي صف؟
- سنة ونص.
لماذا يحب الأطفال العنب!
سؤال وجه لي منذ أسبوعين، وما زلت أفكّر في السؤال.
ربما لكون "القطف" مكون من حبات العنب..ربما اللون، ربما المذاق الحلو..ربما طقوس العنب!
وهكذا، افتتح سوق العنب، لعله مهرجان، وهو يذكرنا بعنب بلدنا في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، حين كان آب اللهاب، مهرجانا اجتماعيا اقتصاديا، كأروع ما يكون، بلد بأكملها منشغلة بقطف العنب، وفقا للمثل الشعبي "في آب اقطع ولا تهاب"، حيث يكون العنب قد بدأ بالنضوج لونا وطعما.
العنب والمنتوجات الأخرى، تلك قصة بقائنا هنا في الجبال والسهول، والغور، والبر، والبادية، والسواحل، والصحراء، وهكذا عشنا، لا بدعوات الخير لنا، ولا بالدعم الإعلامي، وأنجبنا حركة وطنية متنورة، حيث ارتبط الفلاحون والطلبة بالنضال الوطني.
وهكذا، ببساطة وعبقرية، اختار شباب القرية جنود انتفاضة الحجارة عام 1987، "قطف" العنب، داخل إطار حركة التحرر الوطني، إيمانا فطريا بأن الأرض هي أصل القضية، وهي الهدف والبوصلة.
على مدخل قريتنا، بيت دقو، أم العنب، بالقرب من النصب التذكاري لشهيد العلم عرفات داود، الفتى الجميل الذي ترفرف روحه هنا، يرتفع شعار جمعية القرية، التي تأسست مع الانتفاضة الأولى، وهو لا شك شعار للقرية، وللوطن معا، يذكرنا المشهد كله، بدلالات مهمة نستلهمها من الفعل الوطني عام 1987، كفعل نضالي ذكي، تنموي، كان بمثابة تكريس الوعي الاقتصادي كفعل بقاء وكفعل مقاوم.
مرت 35 عاما، صار الشباب خمسينيين وستينين، آباء وأجداد، يبيعون عنبهم على مدخل القرية، متذكرين تلك الأيام، حين أجمعوا على شعار الجمعية، والذي كان نهج حياة ونهج تحرر.
ترى ما الذي يمكن أن نضيفه هنا؟
في هذه العجالة، لربما سيصعب الحديث عن التحولات التي أثرت على حياة شعبنا بشكل عام، ولم يسام منها القرويون، نحن، وأبناؤنا، وأحفادنا، حيث اننا الآن لا نقطف ثمار العنب فقط، بل معه من قبل ومن بعد، نقطف أسوأ نتائج لزراعة أفكار وسياسات، أبعدت جزءا ليس بالقليل القرويين عن أرضهم، وجعلتهم يركضون وراء أوهام الاستهلاك الغبي.
ليس الخطر في الاتفاقيات هو الجانب السياسي فقط، بل الأكثر خطورة، هو التحولات الاقتصادية والاجتماعية، مصر مثالا، ونحن مثال آخر.
لنترك هذا جانبا، ونفرح بالقرويين وهم يقفون سعداء بسوقهم على مدار 3 أيام، حيث البطولة هنا للعنب وزراع العنب وزارعاته.
سأتبادل الحديث مع الأستاذ أحمد مرار، مدرس جامعي متقاعد، ورث حب الأرض عن أبيه، ندندن أغنية شادية عن عنب بلدنا "والله لو ما احلويت يا عنب بلدنا"..كنت فيما مضر قد كتبت عن العنب بين الأدب والفن. هنا ما يستحق أن نتحدث عنه، ونستجليه، ونتأمله.
بدأت فكرة السوق من الأستاذ عادل مفيد، أحد عشاق الأرض الشباب، ليتآزر الشباب والكبار، ويتحدثون لوسائل الإعلام بوعي سياسي وطني واقتصادي، وهم من قرية ما زالت تختار التعليم والزراعة.
جميل المنظر، ومذاقات العنب المتنوع اللون والشكل، وجميل مشهد الأطفال.
فعلها المزارعون، مستفيدين من السوشيال ميديا.
هناك من يوحدنا هنا، الأرض وثمارها الشهية، التي إن أطعمتها تطعمك.
هنا، لن أذهب طويلا في تذكر ما حدث لي وللكاتب صلاح هنية، حين كتبنا عن العنب الإسرائيلي الوافد والغازي أسواقنا. تلك قصة طويناها وإن لم يتم فعلا طوي الجوهر.
ملخص القول، إن لم نستطع منع تلك المنتوجات، فليكن هناك وعي شعبي يقاطعها، ويقبل على العنب البلدي، والمنتوجات البلدية.
مهرجان وطني مصغر ينحاز للأرض، وهكذا فقد سرّ الفلاحون بمن زارهم من متسوقين، وشخصيات وطنية، وحكومية، ممن يدركون معنى الأرض كجوهر القضية.
تجمع الفلاحين هنا انتصار على الجدار العنصري شمال القرية، ذلك الجدار الواهم الكاذب الذي تقبع وراءه مستوطنة.
من أجمل أدوات النضال الوطني اليوم وغدا، إعمار الأرض وجعلها خضراء ذات ثمار.
سر الناظرون وهم يدخلون بلدنا الخضراء، فلنا ما نفخر به هنا، ونتمسك به، لنا ما نحب طعمه ولونه..
لنا هذا الوطن الجميل، والذي بحبات عنبه البلدية انتصرنا.
جعلها من ذهب جبران..
سأجلس تحت شجرة العنب ساعة من الوقت، ومن خلال اليوتيوب سأسمع ما غنت له فيروز من قصيدة المواكب:
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلَّت كَثُريّات الذَّهب
هي كذلك، وجبران جلس ذات يوم هناك، فهو قرويّ مثلنا..
رما أعود للقصيدة الطويلة، التي قرأتها كثيرا، ربما هذه المرة لأقرأ بتركيز، لعلي أكتب شبئا.
هنا يقول:
هل فرشت العشب ليلاً وتلحَّفت الفضا
زاهداً فيما سيأتي ناسياً ما قد مضى
ذلك إذن هو إلهام الأرض والعنب.
[email protected]