الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

رمزية النَّص الشِّعري عند ياسر الوقاد

نشر بتاريخ: 03/09/2022 ( آخر تحديث: 03/09/2022 الساعة: 18:11 )
رمزية النَّص الشِّعري عند ياسر الوقاد

بقلم: أ. محمد جلال عيسى

فبعد النَّظر في قصائد (ياسر الوقاد) التي قُدِمت لجائزة البحر الأبيض المتوسط للشعر وجدتُ الرمز الأساس الذي نظمت عليه هذه القصائد، ويُعد هذا من الأساليب الجمالية في الشعر، حيث إنَّه يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص فهو وسيلةٌ لنقل المشاعر وحالات الوعي([1])، وليس فقط وسيلةً لنقل الأفكار، وتكمن جمالية الرمز عند الوقاد في مضمونِهِ غير المحدد تحديداً نهائياً، مما يجعله يحتمل عدة دلالات، وهذا قد يحول التَّجربة الشِّعرية عنده إلى تجربةٍ نفسيةٍ، ولكي يؤدي الرمز وظيفته بشكلٍ سليمٍ يجب أن يبقى في حدود التأثير النفسي في المتلقي ليخلق لديه جواً من المتعة المتوقعة لديه، فيأخذ الرمز عنده شكلاً خاصاً بمدلولاتٍ خاصةٍ من سياقٍ لآخر، وقد تكون رموزه تحملُ دلالتين: واحدةٌ حقيقيةٌ، والأخرى غير حقيقيةٍ، فالشاعر ياسر الوقاد في قصيدة (هوية سادن السوسنات) يرسم لوحةً للحنين ورفض المنفى ذات صورة فنية كلها تقوم على الرمز فالشاعر في هذه القصيدة يعيش حالة من الحنين الناتج عن المنفى بحدسِهِ وفكرِهِ، فينسب نفسه لما هو ينتمي إليه وإلى ما هو في وطنه فيقول:

لديانة الصفصاف، للبابونج الشافي،

وللنون التي استندت إليها قامة الكاف

للنرجس الوسنان، للطلح المعبئ نومة الوادي،

وللتوت السماوي الذي أبني بفتنته قبابي

للمنجل الوثني، للقمح النبي، لنورج الذُّهْبان،

للنمش الذي بذرته قافلة الصحابة بين كثباني،

وللعسل الذي أبقته ناقة صالح بعرى ثيابي

هنا يتجاوز الشاعر التقليدية في مطلع قصيدتِهِ بمناجاة الطبيعة؛ لينتسب لمظاهر الطَّبيعة في موطنه فيرمزُ إلى أنَّه ينتمي للجمال في تلك الأرض التي يحن إليها فهو يعيش في منفى بعيدٍ عن كلِّ ما ينتمي، ولكنَّ انتماءه لبلاده لا يفارقه فيقول:

قنديلُ إيماني بوجهك، يا بلادي المشتهاةَ،

يشوبه تعبي، ويدميه ارتيابي

إني طفوليُّ اللغات،

مبرأٌ من كل أوبئة الشتات،

وشيبة القنديل لم تكُ في

الشاعر في حالة من الوجع الصَّادق بعيداً عن الزَّيف والتَّصنع فهو يعيش حالةً من الاغتراب، كما أنَّه جعل بهذا النص حلمَ العودة ممثلاً بانتسابِهِ لما ينتمي إليه ورمزاً للمنفى من خلال حديثه بأنَّه ينتمي لمكان أخر غير الذي هو به الآن، والرمزُ في هذه القصيدة متداخل الأبعاد، ومنطوي على ذاتِه؛ ليصلَ إلى ما ينتمي إليه ولم يجد لهذا إلا الشعر يواسيه في حنينِهِ، كما في قوله:

وقد يهل الوعي منتشيًا على مُهر التصابي

منفى تعبئه القصيدة في شراييني؛

لتفتح من جهامته إيابي

منفى أواجهه بإزميل السؤال، فينثني،

فأقيمه بالحب ينضح من عتابي

عفوية هذي القصيدة! ربما العمق استقر

بما نسينا أنه الشعري: بالقش المسن،

وبالغبار أمين مكتبتي، وبالعش الذي

ألقته عاصفةٌ مهلوسة ببابي

وأقول: عذرًا عن إطالتها؛ فمعول قوتي،

دومًا، يخبئه اقتضابي

لكنما دوامة الأشياء مدتني، ويشفع لي

إلى قدسية الشعر انتسابي.

هنا يشير الوقاد إلى أنَّه لم يصل إلى الوعي الكافي، فما زال المنفى والبعد يغزوه، فيدفع هذا بالشَّاعر إلى الشَّجاعة والقوة في مواجهة المنفى فيطغى الفعل المضارع على هذا المقطع ليبقى مستمراً في حنينه وتمسكه بما ينتمي إليه، فلا يثنيه عن ذلك أنَّ تخلى عنه وعن قضيته الجميع، فبحبه لما ينتمي إليه سيرفع عنه العتب ويصل إلى ما يريد وإلى ما ينتمي، فهو صادقٌ في كلماتِهِ التي تعبر عن انتمائه فلا يواسيه في حنينه ومنفاه سوى القصيدة.

وبالنظرة الأولى للقصيدة نجد الانتماء والحنين للطبيعة وقدسية الشعر، ولكنَّ المتأمل في ثنايا القصيدة يجد أن الحنين والانتماء هُنا رمزٌ للوطن ولحياة اللوجؤ والشتات، والصورة العامة للقصيدة نفسِها تأتي للشاعر بألفاظٍ تدل على اللجوء والمنفى وهذا دليلٌ على الحنين للأرض وللموطن الذي ينتمي إليه الشاعر.

فالمنفى هو حالة يرمز لها الشاعر فأبدع في خلق تلك الرموز التي ترمز وتدل على المنفى، كما في قصيدة (فسيفساءٌ على جلد القصيدة).

ولأنَّ المرأة ضرورةٌ لا تفارق حياتنا، وهي جزءٌ لا يتجزأ من الحياة، نجدُ شعراؤنا يرمزون إليها بصفاتٍ حسيةٍ أحياناً، وأحيانا ًأُخرى يشيرون إليها بسمات ٍمعنويةٍ، وعلى الرغم من هذا الشعور العميق بالمرأة فإنَّ الشعراء لم يُقدموا صورةً مُحددةً للمرأة، فهذا شاعرنا (ياسر الوقاد) في قصيدة (الليل تنقيبٌ في جديلتك، والثواني زبيب مذهب) يوضح لنا شدة تضحية محبوبته من أجل اللقاء به ويصف جمالها، ونراه تارة يوضح بأنَّ من يتكلم عنها هي محبوبته الأنثى ولا يذكر اسمها أوصفتها -زوجة عشيقة مخطوبة-، وثارةً أخرى نجدُ هذه المحبوبة هي وطنٌ يحن إليه، وهُنا يرمز للرابط بين علاقة الحبِّ مع المعشوقة بحبِّ الوطن، فأسلوب الشَّاعر في القصيدة يحمل بين طياته الوصف والغزل، إذ يقول:

كلُّ ما بيدي ربةٌ للدنانِ تسمَّى ربابةْ

وعلى وجنةِ الرملِ أقعدُ منعتقًا

من نسيب الفصولِ، ومنتسبًا للسحابةْ.

ما أتى بكِ، يا بنتُ؟

لم تشهقِ النارُ في موقدي، بعدُ،

لم أُنْهِ سكَّ الخلاخيلِ نمَّقْتُها

لمعلَّقةِ امرئِ قيسي، ولم أحفرِ البئرَ، بعدُ؛

لينهمرَ التيهُ أبـَّهةً،

والبهاءُ رحابةْ!

أنا رحَّالةٌ بين ما صبَّهُ

وما لم يقلْه لنا المتنبي، فقلبي نبيٌ،

وهذي القوافي صَحابةْ.

نخلتانِ من السَّهرِ التدْمُري يدايَ،

وعينايَ باديتانِ، وفي منتهى البيْدِ

أنفاسُ غابةْ.

استطاع الشَّاعر أن يخلق شكلا ًرمزياً جماليا ًبهذه الأبيات من خلال مشاعر الحنين حيث يبرز فيها المتمنيات المحفزة والآفاق المنشودة وذلك بالربط بين إليادة هوميروس وحضور المتنبي الشعري وما يراه الفيلسوف، فقد تجاوز حبُّه وجمالُ محبوبته الإبداعَ والقوافي، فأراد أن يوضح أن جمال المحبوبة المتخيلة التي يخاطبها لا يُضاهي جمالٌ أو حبٌّ، وأن جهوزيته لحضورها لم تكتمل بعد فهو في حالة صراعٍ مع ذاته وما يدور حوله وهنا رمزيةٌ عاليةٌ مفادها هل جاهزيتنا للقاء لأرض أو المحبوبة حاضرةٌ؟ وهذا الاضطراب في الحالة التي يعيشها الشاعر ليس تناقضا ًكما يظهر للوهلة ِ الأولى، ولكنَّ أسلوب الشاعر وقتها كان به شيءٌ من الحنين والقلق، وهذا شيءٌ طبيعيٌ لعاشقٍ بعيدٍ عن محبوبته؛ ليذيب فارق المنفى والبُعد بينهما، من خلال الرمزية والخيال فانعتاقه من نسب الفصول وامتلاكه لدنان الخمر وعزف الربابة يؤكد أن ملكة الخيال عند الشاعر تقوم على رمزيةٍ جماليةٍ، وهي عنصرٌ أساسٌ في بناء النَّص عنده فيوظف الشاعر عناصر الخيال: السحاب، والخمر، كواقعٍ متخيلٍ يؤثر في النفس البشرية أكثر مما تؤثر فيه الحقائق المرئية، وهذا ما يؤكده ذكر الخمر الذي يرمز للغياب، ورغم هذا الغياب والبعد أراد الشاعر أن يُبين عُمق العلاقة بينه ُوبين هذه المحبوبة التي تتحدى كلَّ الحدود من أجله ولتلتقي به بعد أن جرفهما سيل البعد والمنفى، يقول:

ما أتى بكِ؟ مِنْ أي أسنمةِ العشقِ

صبَّتكِ صوبي السماواتُ؟

من أي قافيةٍ جِئْتني؟

وهل اجتزتِ وادي الغضى؟

لم تـهابي ذئابهْ؟

استريحي،

سأطهو على ثعلبان المواقدِ قلبي

أراك، وقد هدَّكِ السَّغبُ

فتعشَّي به؛

لعلَّ، العشيةَ، يدْفئنا

فندونُ شعرًا على رِعْشةِ الرملِ،

مِصباحنا مقلةٌ للغزالةِ،

مِسنَدنا غيمةٌ من لُغى الطير،

أمَّا النعاس فَسادِننا الوحيُ

يتلو علينا كتابهْ.

نُلاحظ من خلال الأبيات السَّابقة توالي الصَّور الرَّمزية بجماليةٍ عاليةٍ، حيث يصور استغرابه من حضور المحبوبة ومواجهتها كلَّ المخاطر في سبيل الحضور، وهنا نلحظُ خيال الشاعر في امنيته باللقاء فيخيل بأنَّ هذه المحبوبة هي من تواجه المخاطر وتجتاز وادي الغضى، فلا تهدأ ولا تأبى كلَّ ما تواجهه في سبيل اللقاء به، فتضحي بكلِّ شجاعةٍ وقد هدها الجوع وطول الطريق، فيطلب منها أن تستريح ولتشهد الطبيعة بغزالتها وطيورها على حبهما الذي يُنظم شعراً ويتلى عليهما، وهي صورةٌ جماليةٌ تدل على ذروة ِالعشق ِالتي تربطه بمحبوبته، وكأنَّه يقول بأنَّ هذا اللقاء يزيل كلَّ التَّعب ومواجهات الطريق، وفي هذه القصيدة تتشكل معاني الوفاء والحنين فالشاعر وفيٌ للقاء المحبوبة حتى وإن لم يلتقِ بها فستبقى في خياله وسيلتقيها في حلمه، وهذا ما أراده فيرويد في حديثه عن الجو النَّفسي للرمز والذي يحتاج إلى رغبة لا شعورية تتخذ لها مجموعةً من الأقنعة التَّعبيرية، ومن هذه الأقنعة ما يُسمى بالرمزية، ومن كذلك قوله:

ما سنفعلُ؟

أمشي بسيفينِ من قلقٍ،

فمَهارى أبي نـهبتها النَّوائبُ

أما جوادي الذي كان يؤنسني

فاستعارتْه مني الشمـوسُ التي

نمَّشتها الشوائبُ،

والباقيانِ لديَّ، الظهيرةَ: وجهُكِ

نيسانَ أخيلة من حليب المدى،

وارتعاشُ ربابةْ.

رسم الشاعر هُنا مجموعةً من الإشارات التعبيرية التي تجمع بين مشاعر الغزل مع مشاعر الأسف لما هو كائنٌ، وهنا يرمز ويشير لحالة الانتقال من الحسي غير الواقعي إلى الحسي الواقعي الأمر الذي يفرز شاعريةً مركبةً من حسٍ وخيالٍ وفكرٍ، من خلال التشخيص الذي يرمز إلى استعارة الشموسُ جوادَه، فالرمز يستلزم مستويين: مستوى الأشياء الحسية أو الصور الحسية التي تُؤخذ غالباً للرمز، ومستوى الحالات المعنوية المرموز إليها([2])، وقد دمج أيضا بين الألفاظ الدال على المعاني الغزيرة وبين ما تجيش به النفس من الأحاسيس حيث تداخلت في هذه التشبيهات الحواس مع مخزون الذاكرة لتشكيل بلاغة الصورة وتوصيل المعنى.

بقلم: أ. محمد جلال عيسى