الكاتب: المتوكل طه
*
يبدو أن الأسير الروائي كميل أبو حنيش قدَّم لنا بيدراً روائياً خصباً عبر روايته "تعويذة الجليلة". إذ لا شيء سوى فلسطين داخل الكاتب، أو أننا تعرّفنا أكثر على قضيتنا من خلال كتابه. لم يكتب لأجلنا ضد نفسه، بل كان شاهد حقٍّ على ما جرى، وقد ارتكز على الحقائق ووقف على شرفة البلاد وأحضر إلينا النجوم، أما سارق الأرض فسيبقى سارقاً لأن الخاتم المسروق لا يجعل من السارق ملكاً.
ويتميز الكاتب بأنه مثَّل ضميراً لم يعد له مكانٌ في هذا الزمن، حتى جعل القضية الفلسطينية يومنا الثامن وفصلنا الخامس. وأكَّد على مقولة سائدة بأن: الإنسان ما يكتب وليس ما يكون، وأن فلسطين مثل الجنَّة تدخلها فلا تموت.
وكميل أبو حنيش القابع في الأسر منذ عقدين أكَّد على أن الخير والشر خطّان لن يلتقيا، ولم يقبل بالفكرة إذا كانت خاطئة، لأنّ الإيمان حسب الشاعر "ألان بوسكيه" مسألة نظام وليس حرية، كما أن الوجود الذي لا ثمن له هو باهظ بلا حدود.
ومع إيماني بالقول القائل: كل تفسير للفن هو تفسير خاطئ، إلا أنني أراني منغمساً في هذه الرواية التي تمثِّلني بجدارة، على اعتبار أن لكل صفحة عدداً كبيراً من المؤلِّفين أهمهم من قرأها! كما يرى "بوسكيه" أيضاً.
وقد أبدأ بالقول: إن الدهشة قد تأخذك من عدم الفهم، أو أن الكتابة نَسج أعذار كما يرى "هنري ميشو" لكنني أرى امرأة مثل وردة كونيّة، هي الجليلة. أخذتني معها، بجرأة، مثل الموسيقى، لأرى الحكاية من أوَّلِها إلى آخرها، مثل راهبٍ يعود إلى ديره، على الرغم من أنه لم يخرج منه!
الرواية كتبت صاحبها، والرواية أيضاً هي استعادة لمعنى الرواية، خاصةً إذا كان الكاتب محرِّضاً ولم ينسَ افتراض الضريبة التي ما فتئ يدفعها منذ ربع قرن وأكثر. وها هو قد تزوَّج أحلامَه التي تمخضت عن آدميٍّ لن يقبل التدجين. وعزاء الراوي أن الكلمة المسؤولة هي أرضه وسماؤه وأشجاره التي في يده، ولا يخاف الموت بقدر خوفه من طعنات الحياة، وفي تمرُّدِه التقى الحق ، والنقاء في الفوضى والمرايا الزائفة.
إن رواية "تعويذة الجليلة" قد ولدت حبلى بالأمل وبجرعة الإصرار والثبات، وهي تنتصبُ مثل ضوء مشعّ من المصاطب الخضراء الدافئة، ومن الصور الدامية المكررة التي تعيد رسم البلاد في لوحةٍ أكثر بهاءً وشجاعة وحرية.
لقد حرّرنا الكاتب من الأحزان الساذجة والانكسارات، وزَّرع أغصانا تمشي إلى البحر.. كل ذلك بجهدٍ فنيٍّ استطاع أن يعزِّز الخيال والمعنى، وأثبت أن الفن قوَّة محرِّرة ورغبة حارقة في استحداث أنماط جَمالية غير معهودة، فمن الممتع أكثر أن يكون المرء فناناً بدلاً من أن يكون فيلسوفاً، والكتابة في عمقها هي حرية وعصيان ويجب أن تحدث أثراً وتجعلك تشعر بشعور مختلف، وأن تمارس النقد العارف تجاه كل ما هو غرائزي ويتمثل بأشكال فاشية.. كما ترى إيرس ماردوك.
وألحظ أيضاً أن الكاتب كميل أبو حنيش، باعتباره مثقفاً مشتبكاً بالفعل، قد تصدَّى لغير مسألة جانبية مهمة؛ أوَّلها: الوعي ودور الأُسْرة. إذ إن الوعي لا يقوم على مجموعة مسلّماتٍ عقليةٍ فقط، ولا يقوم على مجرد مقدماتٍ منطقيةٍ فحسب، الوعي نشاطٌ متعدِّدُ الوجوه، يتعرَّض لتأثيراتٍ مختلفةٍ من كل الجهات والأطراف، ولهذا فإن الوعي ليس نشاطاً عقليّاً صرفاً أو "نظيفاً"، الوعي مؤسَّسٌ على "تفاعل" حيوي مع المحيط، العقل فيه جزءٌ من عدة أجزاء. ومن هنا، فإن الحيوية المؤسَّسة على الوعي، تتأسَّس، أيضاً، على مؤثرات لا عقلية ولا منطقية، أو لا يدخل المنطق في تمحيص صِدْقِها من كَذِبِها، أو حقيقتها من عدمها.
هل أُخْرِجُ الهوية هنا من حدود الوعي بها إلى حدود قدريَّتِها؟! قد يكون هذا صحيحاً إلى حدٍّ ما في حالة تفسير الانتماءات القومية والدينية والعقائدية.
الفِكْر لا يكفي لتفسير ذواتنا، كما أن المنطق لا يكفي لتفسير مشاعرنا. هناك ما هو فوق الفكر والمنطق في تحديد اتجاهات السلوك وأولويات القيَم.
ربما تكون "الأُسرة" أولى المؤثرات الأقوى والأكثر تأثيراً علينا طيلة حياتنا في تحديد مَن نحن، إن بقاءنا مدةً تزيد على اثني عشر عاماً نتلقّى القيم ودروس السلوك والعادات واللغة من أهلنا تشكِّل الفترة الأهم في تخصيب أرواحنا وترهيف وجداننا وتكوين منظومة الصواب والخطأ في أعماقنا، وكذلك في تأثيث وتضخيم ما يسميه فرويد بـ"الأنا الأعلى" أو ما يسمّيه القرآن الكريم "النفس اللوّامة" تلك النفس التي تؤنّبنا على أغلاطنا وترضى عن صوابنا - وفي هذا الصدد كتب الإمام الغزالي أروع تحليلٍ حول نوازع هذه النفس بما يسبق فرويد وغيره بمئات السنين.
"الأُسرة" التي يطلق عليها علماء الاجتماع أنها الضرورة لأساس المجتمعات؛ تكتسب حقاً تلك الأهمية في تحديد القيمة وتحديد السلوك المرتبط بهذه القيمة، الأُسرة لا تعلّم السلوك فقط وإنما تعلِّم القيمة المرتبطة به، ولكل قيمة مثال، هذا المثال -شئنا أم أبينا- منتزعٌ من ثقافة المكان ذاته. المكان -بما هو قديمٌ ووعاءٌ للنشاط البشريّ- يتحوَّل شيئاً فشيئاً إلى شيءٍ مقدَّسٍ ترتبط به حكايات وروايات خاصة ترفعه من مجرد موجود محسوس إلى شيءٍ آخر لا علاقة له بالحسّيّة. يتحوَّل المكان من مجرد وعاءٍ إلى قيمةٍ بحدِّ ذاته، له قدرة التأثير على الجسد والوجدان، أيضاً. وقد قام مفكِّرون عرب وأجانب بدراسة هذا التأثير المكاني على النشاط البشري وادَّعوا وجود علاقة كبيرة بين الأمرين، بما دُعيَ "بالمكانية" أو "الجوّانيّة"، ولهذا، فإن المكان يتحوّل هو الآخر إلى خيطٍ في نسيج تعريف الأنا الخاصة والأنا الجمعية، باعتبار أن هذا المكان يتشكَّل من مجموعةٍ من المُثُل والحكايات والأساطير يُطْلَق عليها اسم ثقافة المكان. ثقافة المكان ليست ميكانيكية أو منفصلة، بل هي متَّصِلَة وتتطوَّر ببطءٍ، ولكنها تتحوَّل فعلاً إلى أشياء مقدَّسَة، ومن هنا قوتها وصعوبة الخلاص منها أو عبادتها وتأليهها.
وقوّة المكان تأتي من زمانيَّتِه، فالمكان قديم، وكل قديم طيِّب وقابل للتأويل، وسهل العبارة، أيضاً.
نحن نحتاج القديم لفَهْم الجديد، ونحتاج القديم لتعريف حاضرنا، ونحتاج القديم باعتباره خبرةً ضروريةً، ونحتاج القديم باعتباره أكثر صدقاً وبهجةً وقرباً من الطبيعة، وأكثر براءةً وقرباً من السماء، نحتاج إلى القديم لأنه يذكِّرنا بطفولتنا الفردية والجمعية أيضاً. القديم ضروري لتعريف الحاضر وإضاءته وإعادة تشكيله. القديم ليس فقط للاعتبار، بل - وبالقوة ذاتها - جزءٌ من تشكيل الوعي، هذا الوعي الذي يحتاج إلى مكانٍ للحركة وزمانٍ للتنفُّس. القديم، هو الماضي، هو ما تمَّ إنجازُهُ، ويمكن الحكم عليه أو تأويله، هو ما مضى ولكنه لا زال يتردد حتى الآن، ومن هنا فلا انقطاع للزمن، الماضي جزءٌ مهمٌ من تعريف الحاضر -مرةً أخرى- ذلك أن الماضي (الزماني والمكان) جزءٌ من منظومة القيم التي ظلَّت على الدوام نافعةً ومؤثرةً إلى حدٍّ كبيرٍ.
وعندما أكون صانعاً للتاريخ، فلا أجد مشكلةً معه، أما عندما أنزوي فأصبح جالداً للذات، والذات في جزءٍ منها ماضٍ. وتعريف الهوية، الذي هو أيضاً تعريفٌ للذات بمستوياتها المتعددة، لا يترك مجالاً للآخر بتعكير صفو هذا النقاء. الذات لا تقبل معيناً لها في تعريفٍ يفصلها عن الذوات الأخرى.
الهوية بمعناها الشامل -غير العنصري، والمنفتح والإنساني- تحاول وترغب في أن ترى ذاتها مؤطَّرةً بمكانٍ فريدٍ وثقافةٍ عريقةٍ، وهذا لا علاقة له بالانفتاح على الآخرين أو التفاعل معهم أو التشارك وإياهم.
قد يكون من العجيب -وهذا رأيي على الأقل- أنَّ تعريف الذات في حالتنا الفلسطينية لا يرى في الآخر/ النقيض مكتملاً بقدر ما يراه نقيضاً يجب الحذر منه والتشكُّك فيه. الهوية تحتاج إلى نقيضٍ لتعرف نفسها وتتميّز عنه. الهوية باعتبارها وَعياً بالعالم تحتاج إلى مَن يثيرها ويحفّزها على اختراع صيغة أخرى ورواية... وهذا ما يُبْقي الجماعات حيّةً وفاعلةً دائماً، فالاختلاف في التعريف يعني الاختلاف في تحديد الاتجاهات، والاختلاف في تحديد الاتجاهات يعني تقديم تفاسير مختلفة للمكان الواحد، وهذا هو التاريخ.
أما المسألة الثانية فهي "الآخر"، أو ما يجب تسميته بالنقيض الاحتلالي. فـ"الآخر" في فلسطين صاعق وقوي ومسيطر ومُذِلّ، لا يمكن تجميله أو أنسنته أو التوصل معه إلى نقاط اتفاق، ذلك أنه يهدف إلى سلب الأرض من جهة، وطرد أصحابها منها من جهة أخرى، وتسمح له عقائده وأوهامه وقوّته بذلك، في الوقت الذي يتم فيه استحسان هذا العمل أو شرعنته من قبل قوى كبرى كشفت فيه عن عطبها البنيوي وعيبها العضوي.
في فلسطين، لا تتم معرفة الآخر من خلال وسائل المعرفة العادية، وإنما من خلال لغة الدم ورائحة التراب. في فلسطين، يدفع الشعب الفلسطيني دمه من أجل أن يفهم هذا "الآخر" النقيض. إن هذا "الآخر" الغريب، المحتل، يشهد عمليات تحول حقيقية في وجوده وأهدافه وكيفية التعامل معه.
هذا "الآخر" المنتصر، استطاع أن يغيِّر إلى حدٍّ ما من صورته، وأن يعمل على تقديم نفسه بطرق مختلفة، واستطاع من خلال فرض سياسة الأمر الواقع وسياسة القوة وسياسة العصا والجزرة أن يبتزّ مواقف مختلفة من الأطراف العربية المتعددة، ومن قيادتنا أيضاً! وأن يتحوَّل من صورة "المحتل" إلى صورة "الشريك"، ومن دولة "الكيان" إلى الدولة "العبرية"، ومن "العدو" إلى "الصديق".
والمسألة بحد ذاتها تثير الغضب بالقدر ذاته الذي تثير فيه الحيرة والعجب. فهذا "الآخر" لم يغيِّر من جلده ولم يغيِّر من مصطلحاته ولم يغيِّر من أهدافه ولا من أساليبه، فالذي تغيَّر هو "نحن". "نحن" هذه تثير الأسئلة أيضاً؟! وعليه فإن الرواية تنادي بهذا الوضوح، بمعنى أن لا نقع في شَرَك الأوهام والتسويات المشبوهة. ولهذا، أيضاً، فإن الرواية قد ذهبت للاصطفاف مع المربع الأول الذي لم يبدَّل ولم يتبدَّل.
إن عنوان الرواية هو "تعويذة الجليلة"، والتعويذة هي ما يصون به المرء نفسه بطوطم أو اسم أو حِرْز مقدَّس، وأعتقد أن تعويذة هذه المرأة هو موقفها الحاسم من الأحداث التي وقعت أمامها. أما الجليلة فيعني المهيبة أو الزعيمة بسبب مآثرها، فتصير عظيمة! وتجلَّل الإنسان أي تعظَّم، وجليل المقام هو المحترم الوقور، والجليل في علم الفلسفة ما جاوز الحدَّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر. وبهذا فإن الكاتب قد جمع عظيمين في عنوان الرواية، وجعل هذا العنوان، باعتباره، فاتحة الرواية، ونصّها المُساند، ومفتاح بابها.. جعله مناسباً إلى درجة موفقة ومدهشة.
ولعل عبقرية الكاتب وقدرته العالية على السرد والقصّ والحبكة تكمن في أن الموضوع الذي سيتناوله جاهزٌ، بمعنى أن أحداث القضية الفلسطينية معروفة، وهذا يقيِّد المؤلف، خصوصاً إذا لم يذهب إلى "الخيال" و"اختراع" ضفاف جديدة درامية للنصّ -وهذا من حقّه-، بمعنى أن يختار الكاتب "سيرة" مُعدَّة سلفاً، ليُعيد كتابتها، من خلاله وبأسلوبه، دون أن "ينقّي التاريخ" أو أن يخترع تاريخاً "واقعياً" يدَّعيه.. هو أمرٌ بالغ الصعوبة، لأن الكاتب أمام محدِّدات لا يستطيع الخروج عليها.. ومن هنا تبدو إمكانياته المميزة في إعادة صياغة حكاية متوقَعة ومبذولة، لكنه يقدّمها وكأنها طازجة وغير معهودة وريّانة بالعاطفة والمبادئ.. حتى كأننا نسمعها لأوّل مرّة!
والسيرة الفنية، في جوهرها الناصع والناضج، تكون عندما تحكي سيرة أو قصّة مُدْرَكة، وتبدو كأنها شيء آخر مختلف وجديد. أي أن السيرة أو القصّة "المعروفة" بعد كتابتها، ثانيةً، لن تكون هي ذاتها القصة أو السيرة الأولى، بالضرورة. إن هذا هو دور الأدب أو الفن عموماً، بعيداً عن الصدمة أو الإبهار أو المخيال البعيد.
لقد احتفت الرواية بكل المفردات التراثية والثقافية والاجتماعية في الحياة الفلسطينية قبل النكبة وبعدها، بمعنى أنها أبرزت ثقافتنا الوطنية بمعناها الاجتماعي وبمرجعياتها العقدية والميثولوجية، لتؤكد على أصالة هذا الشعب، وأن حياته الاجتماعية هي من تجليات تفاعله مع أرضه عبر آلاف السنين، وأن هذا الشعب غير طارئ، وله جذور في المكان، وأنه صاحب الحق الشرعي الوحيد في هذا التراب المقدّس.
كما أعلت الروايةُ وأبرزت قوّة الحياة لدى هذا الشعب الجبَّار، الذي ينهض من نكبته ليؤسس عتبة راسخة، يطلّ منها على أرضه الأولى، ليظل متَّصلاً بها، ولا ينقطع البتة عن جذورها ومكوّناتها، التي يحملها معه أينما حلّ، وليس ذلك آلية تعويض مرضيّة أو نوستالجيا مصابة بالرهافة، ولكن تأسيساً لمتكآت وأعمدة، تنهض جميعها بسقف الوطن إلى حدّ البلوغ والخلاص والوحدة واجبة الوجود.
كل شخصية في الرواية تلخّص وتمثّل مرحلةً أو موقفاً، فالجليلة هي روايتنا وحكايتنا، وزوجها هو المجاهد مصطفى الذي خذلته النكبة، وفادي هو الانتفاضة، وأبوه "عودة" هو الفدائي الذي انزلق إلى تسوية مختلَّة تنازلت عن الحقوق وضيّعت البلاد، ووداد هي أرض 48 التي تخلَّى عنها زوجها تماماً، بمعنى أن اتفاقيات التنازل "أوسلو" بددت وقدَّمت للعدوّ أربعة أخماس فلسطين دون أيّ مقابل. وهنا تكمن قدرة الروائي على التصعيد الدرامي، وقدرته على الحبكة والتسلسل بالواقع وربطه بإحكام ودقَّة، وتباين علاقاته وتداعيات أحداثه... تباعاً. فالرواية إذاً هي سيرة الشعب الفلسطيني ومسيرته المتوهجة والمتعثِّرة، وهي سيرة ليست غيرية بل شخصية جماعية لم تنته فصولها بعد.. فخاتمتها مشْرَعة!
قد يقول قائل؛ هل جاءت الرواية بشيء جديد؟ يبدو الجواب أن الكاتب قرَّر تعليم القارئ تاريخ القضية الفلسطينية. وباعتقادي أن هذا وحده، يكفي، لإبقاء ذاكرة الأجيال مطهمةً بتاريخنا وبمظلمتنا، وحتى لا نُصاب بالعدميَّة القومية. ثم إن الرواية تتبنَّى مواقف سياسية واجتماعية وأخلاقية وفكرية، في غاية الأهمية، وتجعلها "نموذجاً" يُحتذى، وقدوة تدعو إلى الانحياز إليها.
ويُحسب للروائي أنه أسير منذ عقدين ومحكوم بتسعة مؤبّدات!، ومع هذا نراه منشغلاً بتأصيل مدارك الأجيال الجديدة، كما نراهُ يهجس بالقيم والمبادئ والحقوق غير القابلة للتصرف، والتي لا ينبغي التخلّي عنها، مهما بلغت الأعذار والمبررات. وبهذا فإن هذا "الأسير" هو حرُّ بامتياز، وليس سجيناً، لأن القضبان لم تخترق صدره ولم تقبض على قلبه، بل بقي حرّاً، تماماً، رغم وجوده في مكان مغلق، لم يستطِع أن يدمِّر جسده وصولاً إلى النَّيْل من روحه.
والرواية لم تغادر فضاءها الزماني والمكاني، بل تشبَّثَتْ به حتى تقول إنها قصة شعب حقيقية، من لحم ودم ودموع وأحلام.. لهذا فإن الرواية لم تجنِّح خارج الواقع، ولم تتغيّا أساليب التشويق المصطنعة، وربما لم تكن الشخصيات بحاجة إلى أسطرة لأن "الجليلة" مثلاً أكبر من الأسطورة، مثلما أن الرواية اكتفت باللامعقول وغير العاديّ والفنتازي والغرابة، التي تمور حولنا، وهي موجودة وحاضرة أصلاً في الواقع، ولا ضرورة لاختلاقها، لأن الواقع تجاوز الخيال.
وأرى أنَّ هذه الرواية هي المثال الذي يصلح لأن "يحكي" عبر الدراما، ويقول قضية فلسطين، فهي تصلح لأن تكون مسلسلاً أو فيلماً سينمائياً جامعاً شاملاً عميقاً، يحمل المسألة برُمَّتِها دون افتعال أو مبالغات.
وأؤكد أن الروائي في هذه الرواية قد أثبت قدرةً استثنائيةً على تأسيس مقطع تاريخي، رجراج وممتد وينوء بالأحداث الثقال، بلغة حسَّاسة رشيقة، وبحمولة معرفية ظاهرة، وبإمكانيات مدهشة استطاعت أن تشدَّ القارئ وتُحْكِم قبضتها على وجدانه، وتبعث إلى عقله وقلبه رسائلها المُحْكمة والعارفة والمنتمية.
أعترف؛ لقد أدهشني هذا الكاتب! ونفذ إلى روحي، وجلعني أتماهى مع الجليلة، منذ بزوغها، إلى متابعة أبناء أحفادها. هذه الرواية هي نحن اللاجئين الذين لن نتخلَّى عن العودة وعن حقوقنا، ونحن أبناء الانتفاضة والفدائيين الذين لم ينزلوا عن جبل أُحُد.. ولم يغنموا "أوسلو" التي أعطت القتلة الأرض والمقدّس، وتركت لنا الحسرة واللوعات. نحن أبناء فلسطين الشهداء، الأسرى، وكل مَنْ يحلم ويده على مفتاح بيته، ولم يصدِّق فرية "سلام الجنائز والاسيتطان والأسوار العنصرية والموت الزؤام والعار"، هذه الرواية هي نحن، الذين ينبغي أن نجعلها إنجيلاً للأجيال الطالعة، ومنهاجاً للمدارس، ومساقات في الجامعات. هي روايتي وحكايتي وقصّتي وسرديَّتي.
وتحفل الرواية بالكثير من الرموز الدَّالة والمباشرة؛ بدءاً من "البارودة" التي تتوارثها الأجيال منذ ثورة 1936 إلى ما بعد الانتفاضة الثانية، تأكيداً على الحقّ في الكفاح لاستعادة الحقوق المنهوبة، إذ لا شئ يقدر على استرداد ما ضاع إلا المقاومة.
كما أن "الجبل" الذي امتلأ بأهله وأشجاره، هو نموذج لأي قرية أو بلدة، وأهله هم نماذج للشعب، وما يجري فيه من دّهْمٍ ونسف ومواجهات ونقاشات.. يُعْتَبَر صورة مصغَّرة ومكثَّفة لمَا يجري بطول البلاد وعرضها.
أما الأسماء فهي ذات دلالات مؤكَّدة، بدءاً من عودة، فادي، حسن، عائد... إلخ. أما السلسلة الفضيَّة التي تحمل صدفة البحر وصوته، فهي رمز ليافا ببحرها وموجوداتها الأخَّاذة، ودلالة الانتماء الحاسم لها.
والكهف رمز لعَرين المقاومين الفدائيين الذين يتناسلون تباعاً في كل مرحلة، ويترسَّمون خطوات بعضهم البعض.
أما استعادة البيت والبيارة، عبر الصور والفيديو، من داخل سلمة ويافا المحتلتين، واستعادة المشاهد الخلَّابة لتلك المروج والفضاءات الخضراء، فأرى أننا لن نستعيد أرضنا فعلاً إلا إذا تمَّت استعادتها في وعْينا أولاً وامتلأنا بها وعرفناها. ولعل وصيَّة الجليلة بعد أن تجاوز عمرها المئة عام بأن "لا تنسوا سَلَمَة" فإنها تُلخِّص الأمر برمّته، عداك عن أن مولد حفيدة جديدة تحمل الاسم ذاته "جليلة" يعني تواصل حضور الوصيّة التي لن تموت.. حتى التحرير والعودة. أما اقتران حفيد جديد يقطن في الضفة الغربية (السلطة الوطنية الفلسطينية) من قريبة له من يافا (الأرض المحتلة 1948) فهذا يعني أن الجيل الجديد استعاد حِكمة ألا يتخلَّى عن موطنه كله، وأن فلسطين هي من النهر إلى البحر، وأن أوسلو لا تلبِّي التطلعات، ويجب تجاوزها.
إن "الجليلة" في الرواية هي القضية/ الشعب/ الموقف الجذريّ. وأرى أن الكاتب في هذه الرواية استطاع، بجدارة كبيرة، أن يذوِّب المواقف السياسية والفكرية والوطنية، وحتى التعليمات الأمنيَّة في تلافيف النصّ والسرد الروائي، بحيث نجا من الخطابة والوعظ والرطانة والصراخ. ونلحظ أنه منحاز، كلياً، إلى المطلق في الحقوق وفي المواقف والمبادئ الاجتماعية، ويدعو إلى التكاتف وإلى "المثال" النموذجي، لأنه، أي الكاتب، غير مُحايد أمام هذا الصراع الضاري بين شعبه وبين أعدائه المجرمين، ويحتاج إلى هذا النوع من النماذج التطهُّريَّة حتى يستطيع إنجاز التحرير والخلاص وتحقيق العودة.
وقد تمكَّن الروائي عبر مسيرة الجليلة وعائلتها الممتدة من أن يضيء المراحل ويقدِّم قراءته السياسية منذ النكبة حتى اليوم (ثورة 36، النكبة، النكسة، الانتفاضة، أوسلو، الانتفاضة الثانية)، بلغة أخرى فإن الرواية/الجليلة هي سرديّة شعبنا، التي أحاطت بكل المفاصل والتحوُّلات والأحداث، وقرأت بوعي كبير كل الذي كان، وما ينبغي أن يكون. إن الجبل/الفارعة/المخيم، رغم العوائق، قد حمل عن يافا وسلمة بياراتها وأحلامها، حتى لا يكون العدم هو سيّد الموقف.
وباعتقادي فإن الضوء الأكثر سطوعاً في هذه الرواية هو الصادر عن البطلة/ المرأة/ الجليلة، ما يعني أن للمرأة الفلسطينية دوراً لم يستطع الرجل أن يقوم به، وهذا إنجاز محمودٌ للمرأة، وإنصافٌ لما قامت به، واعترافٌ باجتراحات أُمّهاتنا وأخواتنا وأزواجنا في تثبيت نقاط متقدمة في مسيرتنا المستحيلة.
لقد وُفِّق أبو حنيش في الجمع بين أمرين عصيّين على الكُتّاب، هما: "الجَمال" و"الفكرة"، وأرى أنه قد زاوج بينهما إلى حدٍّ مُقنعٍ ومريحٍ. شكراً كميل على هذه المتعة القاسية والضرورية، وعلى هذا البهاء المشرق رغم العتمة.. شكراً جزيلاً.. وإلى حريَّة.