الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

سؤال الاشتباك مع كل شيء في ديوان "تأويل الخطأ" للشاعرة نداء يونس

نشر بتاريخ: 19/10/2022 ( آخر تحديث: 19/10/2022 الساعة: 22:27 )
سؤال الاشتباك مع كل شيء في ديوان "تأويل الخطأ" للشاعرة نداء يونس



قراءة الأسير كميل أبو حنيش

تواصِل الشاعرة نداء يونس شقَّ طريقها الوعرة في غابة الأسئلة الموحِشَة والخطرة، في ديوانها "تأويل الخطأ" الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة، في طبعته الأولى في القاهرة للعام 2022. ويأتي هذا الديوان امتدادًا لدواوينها الشعرية السابقة "أنائيل" و"بروفايل للسيد هو" (2019) وحجر نداء الوسيط الذي تستكمل موضوعاته في ديوانيها الصادرين عن دار الشؤون الثقافية في العراق بعنوان "ليس إلا" و"امرأة عمياء تقود الحافلة" (2022)، وبما يشكل خماسية شعرية تنطوي على قلق وجودي لا يهدأ، ويشكل محاولة لابتداع طريقة تصوفية خاصة بها، مستخدمة لغتها الشعرية في التعبير عما يجول في أعماقها من هواجس وجودية.
وكان ديوانها "تأويل الخطأ" صدر ضمن مجموعة مختارات تحمل نفس العنوان بتقديم الشاعر العربي العالمي "أدونيس" الذي كتب في تقديمه له "هكذا، تتحَولُ اللغَةُ إلى فضاءٍ تتفجَرُ فيه الرَّغبة حُرَّةً، ويتَحولُ كلُّ شيء إلى جسدٍ، ولا تَحتاجُ المادةُ إلى أجنحةٍ لكي تطير. المادةُ هي نفسُها الجناحُ - بعيدًا، بعيدًا عن العالم اللفظَويِّ المُعجَميِّ الذي يفْتَرِشُ بِساطَ الرَّملِ السماويِّ، في هذه الخَريطةِ العربيةِ المُمَزقةِ التي تتحولُ إلى سوقٍ ضخمةٍ بحجم العالمِ لغسْلِ البَلاطِ الذي تَعبُرُ فوقَه خطواتُ الغزوِ من كلِّ نوع. إنّه الفَضاءُ المَشحونُ بالطّاقةِ الخلّاقةِ التي هي مَدارُ الشِّعرِ ومَسْرحُهُ، وهي ما يَجعلُ الشِّعرَ حُبَّاً على مُستوى الكون".
وتحتوي مجموعة المختارات بالإضافة إلى "تأويل الخطأ"، على نصوص من مجموعتيها السابقتين الصادرتين في طبعة فلسطينية عن دار الاستقلال تحت عنوان "كتابة الصمت" بتقديم الشاعر المتوكل طه، وكنا قد نشرنا قبل زهاء ثلاثة أعوام دراسة نقدية حولهما بعنوان "المعنى والعدم في كتابة الصمت للشاعرة نداء يونس" صدرت في كتابنا "وقفات مع الشعر الفلسطيني" الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية 2021 (ص 221-283)، عالجنا من خلالها رؤية الشاعرة وهواجسها الوجودية، وتلك الحيرة والغموض التي تكتنف نصوصها واللذان تناولتهما الشاعرة بأسلوب أدبي جرئ وجميل، وأفصحت فيهما عن هواجسها بلغة تنطوي على إحساس عميق ومعرفة، واستخدمت الجسد والرغبات الحسية وسيلة للكشف والحدس.
ديوانها الجديد هذا، وكما أسلفنا، استكمال لذات الطريق الذي سلكته سابقا بهدف البحث والتقصي ومحاولة للإبقاء على حالة الشغف وفي ذات الوقت، ترويض لوحش القلق الوجودي الذي يبقيها في حالة من الحيرة والارتباك واللا-طمأنينة، فتلجأ إلى لغة التصوف.
وبطريقتها التصوفية/الشعرية، نجدها تجمع بين مذهبي الحلولية ووحدة الوجود في بعض نصوصها، كما أنها تبدأ من الجسد وما ينطوي عليه من رغبات وأحاسيس ومشاعر وهواجس وأسرار وتساؤلات، وبهذا تعود بنا الشاعرة إلى العهود البشرية الأولى وهي تتساءل عن معنى الوجود وما هو كامن وراء الوجود المادي المتعيِّن.

أولا: الأسئلة الوجودية

يمثل القلق الوجودي حجر الزاوية في نصوص الشاعرة، وهو ما يدفعها لإثارة أسئلة، وإن بصيغة تتأرجح بين الشك واليقين، فالشعر في تعريفه سؤال لا إجابة. تفصح الشاعرة عن توجسها من إثارة هذه الأسئلة التي تحمل في طياتها التشكيك بما حملته المعتقدات واليقينيات وتعبر عن هذا التوجس على هذا النحو:

أي سؤال عنك
اشتباك علني مع كل شيء (11)

أي سؤال عن سؤال الحب، كما عن الوجود، المطلق، المتجاوز هو اشتباك مفتوح مع كل شيء: الذات، الجسد، الآخر، الثقافة، التأويلات، المجتمع، المحيط والوجود ذاته. ثمة عواصف تثيرها الأسئلة على هذا النحو، لكن الشاعرة تحمل نزعة ميتافيزيقية تستقيها من ذاتها من التعاليم السائدة التي من الواضح أنها تخضعها لمساءلة عميقة، فالشاعرة تسأل وتجيب في ذات الوقت "أي سؤال عنك"؛ فهي تؤمن بالمتجاوز لكنها تود أن تروي ظمأها بالسؤال عنه، وتراه في مِخيالها في صورة مغايرة لما هو شائع، وفي ذات الوقت، يتراءى لها العدم، لكنها تفزع، فتسجل تساؤلاتها الأهم:

للسؤال طبائع الغيب الذي يرى
هل يُرى العمق من حافة اللاشيء الميتافيزيقي
غالبا، دون تجربة في العبث؟ (19)

وكأنها تود القول أنه لا معرفة دون تجربة، إن خوض تجربة العبث من شأنه أن يوصلها إلى المعنى أو حسب بعض المذاهب الصوفية: السمو من خلال الهبوط والانغماس في تحقيق اللذة والرغبة. إن التخلص من كل موروث أو معتقد للوصول بهذه التجربة إلى المطلق بطريقة ذاتية، ذلك أنه – وحسب اعتقادها- ما هو سائد من معتقدات، ليس أكثر من هامش ولا يؤسس عمقا؛ فكيف نصل إلى العمق، ونحن لا نزال على الشاطئ؛ وإلى المتن، ونحن ما زلنا على الهامش، فلا يمكن أن يرى الحقيقة من لا يبحث عنها، فالحقيقة غير الحقيقية (اللاشيء الميتافيزيقي) هي سلوك الطريق الخاطئ أو الأسطوري الخالي من أي معنى أو عمق ولا يعبر الا عن عبثية الإجابة عن السؤال؛ وطالما يجري استقاء الإجابة من المتن لا من الهامش – ما تم تهميشه. أما الهدف من هذه التجربة، فهو الوصول إلى الطمأنينة واليقين:

لأرى صورتك في مرآة
لا أحملها. (143)

والصورة التي تود رؤيتها ليست عيانية وإنما حدوثا أو إلهاما يتجاوز الحواس؛ بعبارة أخرى، تنشأ ومضة تلمع في ظلام الوجود الدامس، فتستدرك قائلة:

لا أقول الانعكاس ضرورة
بل الظل اثبات على نجاة الكائنات
لا من الحب
يل من العدم (143)

إنها لا تلتمس الصورة في تجليها الكامل، كما تنعكس من المرأة، وإنما تنشد إشارة، ظلًا، ومضة وليلًا، ينقذها من الوقوع في هاوية العدم (بلى، ولكن ليطمئن قلبي)، فالظل، اثبات لوجود الأشياء المادية، وهي إلى الآن لا ترى ظلا، وإنما تجد ضالتها بالحب، الذي يمثل أي سؤال عنه اشتباك مع كل شيء، للنجاة من العدم، وهي قراءة تؤسس لتأويل آخر مشتبك او لتأويلات كثيرة.
ثانيا: تنطلق الشاعرة في سبر وتأمل الوجود، من الجسد والذات. فالحقيقة ذاتية، والذات هي منبعها، ولا يمكننا إدراك ما هو خارجها، قبل أن نختبر ذواتنا، اجسادنا، رغباتنا. والجسد هو كيان الانسان وأحد أوجه هويته الشخصية، وما يحتويه من رغبات حسية وغرائز. وإذا تمكن الانسان من فهم ذاته، وتأمل جسده ورغباته، يكون قد فهم كل شيء، فالسر يكمن في الجسد، وهو الحقيقة التي يحسها ويدركها المرء.

لا أعرف من العناوين سوى جسدي
أي حد؟ (11).

الجسد هو هوية الانسان ومصدر وعيه لذاته ولوجوده، وهو الدليل الأول على الوجود (أنا متجسد، إذا انا موجود)، إذا الجسد هو مصدر المعرفة والحقيقة بأسراره ورغباته وأجزائه وأعضائه التي تعمل بآليات مذهلة.
في الجسد يكمن السر: كيف وُجدنا، ولماذا وُجدنا، وما سر الرغبة الحسية والغرائز؟ وما هو الحب والأحاسيس والمشاعر والهواجس والأفكار؟ والآلية التي يعمل بها الجسد، وما هي الروح وما هو مصدرها؟ ولماذا نحيا ولماذا نموت وما بعد الموت؟ وهل يمكن ان نقبل المعرفة الجاهزة التلقينية الموروثة التي يتم اسقاطها كتأويلات بينما يمكننا نحن أن ننتج كل هذه الأسئلة المشتبكة التي تخرج من الداخل، وأن نمتلك فضيلة التجربة لنعرف؟

ليس السؤال:
كيف وَجَدَ البِئْر بل؛ كيف يحملُ إليه
النّار؟ (111)

هذه الأسئلة بيتٌ للقلق الوجودي، إذا ثمة كيان صالح للاختبار هو الجسد، وهو أقرب شيء لدينا بوسعنا تأمله بسهولة ويسر. نجد الشاعرة تخطو خطوة إضافية في هذا القلق:

لا أعرف عنوانا سوى الرغبة التي جئت بها
لست شيئا سواها
والأبد، ليس أكثر من فزاعة في حقل الضباب (17).

فاذا كان الجسد هو العنوان، ومصدر الادراك الأول، فإن الرغبة هي قدس أقداس الجسد، وسرَّه الأعظم، وبها تكمن المعرفة وبداية الطريق إليها. فالرغبة الجنسية هي أعظم الرغبات الإنسانية على الاطلاق، وبهذا تكمن السعادة الحقيقة، وهي سر أسرار الجسد.، وهذه الرغبة المتأججة التي تشتعل لتخبو ثم تموت، تجد فيها الشاعرة أحد الأسرار الوجودية التي ينبغي تأملها وفهم آلياتها ومغزاها والغاية منها، وكيف تسنى للطبيعة ان تودع مثل هذا السر في كائناتها من خلالها؛ تلك النشوة التي تدوم للحظات، وبها تتوهج النفس والجسد بسعادة عظيمة قبل أن تتلاشى، لكنها تظل تحاول بلوغها دون كلل، وكما تريد للمعرفة أن تكون؛ محاولة للكشف دون كلل.
يصبح المتلاشي - أي تلك اللحظة التي تختبرها الشاعرة بوصفها لحظة نادرة ومؤقتة، ومصدر سعادة لا يضاهيها سعادة أخرى - تساؤلا على معنى ضمني كامنٍ ينطلق من: سر هذه النشوة؟ موتها؟ كيفية تحقق ديمومتها؟ ولماذا تخلق حالة شغف مستفحل لبلوغها دائما؟ ربما يكمن السر في تلك اللحظات – ربما تلاشيها وزوالها يحمل إشارة لبلوغ الديمومة وتحققها وربما الأمر يتعلق بقدرة الذات على القرار.
تقول يونس تعقيبا على هذه النقطة التي تناقشها مطولا في كتابها – قيد الاعداد- حول الذات والآخر في الفكر العربي وبحثها في سيميولوجية الجسد الاحتجاجي والتغطية الإعلامية للجزيرة أثناء ثورات الربيع العربي: تلك الرغبة الجنسية هي قناع بلاغي رمزي تكمن تحته أسئلة الذات والوجود كلها، هي اختبار لقدرة الفرد على القرار، على استعادة الجسد من عبودية المعرفة الجاهزة ولاستعادة حقه في السؤال وإنتاج المعرفة واحراج الجاهز. الجسد مختبر للتجربة ولتوليد المعرفة؛ ومن هنا، تكمن أهمية الرغبة في انها تحد للجاهز، رفض للتحكم الخارجي في الجسد، استعادة الانسان سيطرته على ما هو له، ان الجسد - الذي استُلب تحت ثقل كل شيء - هو طريقتنا لنفهم ونحس ونقرر، فاذا كان استلب ويعيش بموجب ما فُرض عليه، فكيف يمكنه أن يفكر وأن يحس وأن يقرر. ان استعادة الجسد من ارتهانه للخارج معادل للحرية وللقدرة والإرادة والقرار وهي مفردات تحدد علاقة الذات بالآخر وبوعيها الحر. هنا، تمثل الرغبة قناعا تكمن تحته بذور مواجهةٍ للسيطرة والتحكم والتي تمارس أولا وأخيرا على الجسد وعبره، وبالتالي، على ادراكاته وعلى مصيره وحتى على الماوراء؛ ان هذا التحكم شكل من أشكال العبودية، وسجن في التأويل يجعل الفرد امام خيارين: الاستسلام واستكمال التموضع داخل مصفوفة النسخ البشرية الجاهزة التي تشكل الجسد الجمعي للسلطة، أو الثورة والرفض والشك، والتساؤل المدعوم بقوة الحب وبالاتكاء عليه، كي لا يتحول البحث عن المعرفة كعطش فطري إلى وحش يلتهم إنسانية الإنسان وكيانه البشري بكل قلقه الجمالي وبما يتوازى مع دعوة الله الى التأمل؛ فالتأمل والتدبر فعلان فرديان لا وساطة فيهما ولا سلطة للتأويل عليهما، هما اختبار للمجهول بالجسد، واختبار للغيب بالسؤال، واختبار للجاهز بالمساءلة، وهما فعل مخيف في علاقتنا بالسلطة، أيا كانت.
تعبِّر الشاعرة عن أسفها لتلاشي تلك اللحظة، أو لعدم القدرة على السيطرة مرة وإلى الأبد على الجسد بوصفه استعادة للسلطة:

أعرفها؛
لحظتي التي لم أقبض عليها (136)

تصل الشاعرة إلى ادراكها الكامل لمأساوية تلاشي لحظتها العابرةـ لحظة التمسك بالوعي أمام الجاهز الجمعي، تلك اللحظة التي يستعصي عليها القبض عليها، ثمة رغبة إنسانية مستحيلة لتخليد تلك المكتسبات الجسدية التي لا تخضع للجاهز، وهو ما يبعث على الإحساس بالحزن والأسف والشعور بالنقص والحيرة، ومن هنا تبدأ الشاعرة بتأمل تلك اللحظة التي تكمن فيها اللذة/ القناع والألم/ الخضوع والعودة إلى واقع الهيمنة والسيطرة على الملكية الوحيدة للإنسان؛ جسده، فيما ما زال الباب مواربا، إذ ترى الشاعرة في الحب الجذر الأوحد لكل شيء وبه يكمن المعنى:

الحبُّ؛
هو الجذر الأوحد للأشياء
ينمو ببساطة الطحالب
ونلتقطه بشباكٍ مثقوبة
إلا إذا صار الهامش نصًا (54).

الحب هو جذر الحياة، منطقة اشتغال الذات، أصل الوجود، وطريقة استعادة الجسد من القيود، ولولا الحب لما وجد شيء، الحب ليس ماديا كالغرائز، وهذا ما يؤكد تحليلنا السابق لفكرة الرغبة/القناع، ويجعل صوفية الشاعرة خطًا جديدًا؛ صوفية للجسد نحو كينونته، نحو المعرفة المنبثقة من الذات التي عليها أن تتحول إلى نص وأن ننتقل من الهامش، ونحو تحقق الذات ككائن عاقل مفكر لا كلعبة تتحكم في مصائرها تأويلات الآخرين، فكل خطأ يمكن تأويله كصواب، وهذا ما يمكن للذات المحبة القيام به وامتلاك سلطته.
الحب مغاير لكل مادي، وهو كما الرغبة الحسية لا يمكننا أن نقبض عليه، بل أن نختبره، وبهذا تصبح الدعوة الشعرية هنا صرخة للحفاظ على تأججه ودوامه دعوة لرفض أَسَنِ المعرفة حتى تلك التي يتوصل إليها الجسد بذاته حين يقبل بما يصل إليه ولا يجدد بحثه وتأمله، فالمعرفة ليست قالبا جاهزا في حائط العالم كما تقول الشاعرة في ديوانها الجديد "كيّ" - والتي كمفردة تتضمن جناسا كاملا يقرأ على وجهين: فاحد معانيها في اللغة أنها حرف جرّ يدخل على (ما) الاستفهاميّة للسؤال عن علَّة الشيء أو أنها كلمة تشير إلى الإحراق بالنار مثلًا أو إزالة التجاعيد - بل مطرقة تحملها كي تكتب بالهدم، الهدم المستمر لكل القناعات، وبهذا يتجدد الايمان كما يتجدد ماء النهر.
الرغبة الجسدية ليست هي الحب، تجد الشاعرة في الحب عالما ميتافيزيقيا وليس ماديًا، الحب وقد يشكل هذا الفهم أساسا للإيمان بالمطلق، حيث تعبر عن هذا من خلال رغبتها بالتوحد والاكتمال والذوبان في المطلق – الذي لا يعني سوى الجهل الذي يحاول شعراء مثلها تقديم إجابات له من خلالهم، وكما في هذا النص:

أريد أن أكون التفاحة والسهم
وهذا التداخل يحدث (155)

هي الرغبة بأن الفاعل والمفعول به، الذكر والأنثى، السالب والموجب، الحياة والموت، أنا وهو، الكيْف والماذا، الإجابة والسؤال، الروح والجسد، الميتافيزيقي والواقعي. ثمة شوق للذوبان وبلوغ السعادة الخالدة عبر هذا الاكتمال، الذي يمر عبر الجسد، نحو كل شيء ومن خلال الاشتباك مع كل شيء. يُعبِّرُ المتصوفون، عن هذا التداخل بلغة المجاز: الراح والروح، الروح والجسد، الماء والخمر.
لكن هذا التداخل لا يحدث إلا بصورة مؤقتة، كما في لحظة اتصال الذكر بالأنثى، أو في لحظة النشوة التي يبلغها المتصوفون، او تلك اللحظة السيزيفية التي مثلت رغبة مؤقته ونشوة هائلة بحمل نار المعرفة أو سرقتها من الآلهة، والتي لأجلها عوقب سيزيف بدفع الصخرة إلى الأبد، لحظة نحاول تأبيدها تحت ثقل سلطة الموروث فثمة سلطة عقاب وهي سلطة أقوى تشد الميتافيزيقي الى الواقع، والجسد إلى قيود الشكل والمعرفة الموروثة والموضوعات الجاهزة. إذن هنا ثمة اشتباكات للواحد بالجمع، وهي اشتباكات تعاود ذاتها طالما أن هناك وعيا يطرحه الشعر هنا كسؤال عن إمكانية تحوله - أي الوعي إلى ممارسة جماعية او إلى إجابة يقدمها جسد الشاعرة الذي خبر لذة معرفته الخاصة، حتى لو كانت كاللذة المؤقتة، في مواجهة كل شيء.

ثالثا: النزعة التصوفية
تعتبر التجربة الصوفية في مختلف الثقافات والأديان تجربة فردية ذاتية تقوم على الجسد والاحساس بالتوحد مع الله او المطلق او روح العالم؛ ومع المعرفة، من خلال الجسد.
والمتصوف سيبحث عن الحقيقة الكامنة وراء الوجود – دون وسيط – يلجأ الى ذاته باحثا عن سر الوجود، ليصل من خلال هذه التجربة الى احساسات خاصة وتصورات ميتافيزيقية أقرب إلى الأحلام او الأوهام.
تحاول الشاعرة نداء يونس أن تشق لنفسها طريقة خاصة في التصوف، عبَّرت عنها من خلال عدد من النصوص الشعرية:

كل الطرق
حتى تلك التي لا علامات فيها
حتى تلك التي أرهقتها الاتجاهات
تقودني إليك
وهذا ما لم يستطع القراصنة
ولا الباحثون عن الكنوز أن يعرفوا مثله (15)

لقد أوصلتها طريقتها التصوفية الخاصة إلى نتيجة قوامها أن الوجود مستحيل دون موجد أو خالق، وأن هذا الوجود لا يقوم على العبث، فكل الطرق تقودها إلى الايمان بأن ثمة معنى لهذا الوجود يطالبنا الله باكتشافه والتدبر والتأمل للوصول إليه. تقدم الشاعرة طريقتها التي تتكامل مع الطرق الأخرى والتي تصل كلها إلى ذات النتيجة، حيث تقول:

ما يُرَى بكثرة لا يُلاحظ
الغياب أقصى أشكال الحضور
هكذا يمكنني أن أقول: لا أرى أحد سواك (16).

ترى الشاعرة في الغياب دلالة على الحضور، وأن التعدد يقود الى الوحدانية، وأن الغياب أو التجاوز هو اقصى أشكال الحضور، وأن ما هو كامن وراء ما هو ظاهر للعيان، وبهذا تستولد الشاعرة الأشياء من نقائضها، تستولد الحضور من الغياب، والوجود من العدم، والحياة من الموت، والوحدانية من التعدد، لتصل إلى يقين بالمطلق الكامن، وهو ما يمكن للحواس أن تصل اليه. وتكمل مقاربتها قائلة:

الموت أكثر أشكال الوجود اشتغالا
بالإدمان على فكرة العدم
وهكذا يمكنني أن أقول: لا أرى أحدا سواي (16).

ففي النص السابق، الغياب أو التجاوز هو إثبات للحضور، أما الحضور أو الوجود في هذا النص، فهو دليل على الفناء. فالشاعرة تعي ذاتها ككائن موجود سيؤول الى الفناء والعدم، إذا الحضور سيؤول إلى غياب، فيما الغياب يصبح الحضور الحقيقي أو اللامرئي واللامحسوس والكامن أي الوجود الأزلي الأبدي. نجدها تضيف في نص آخر:

لا أراني،
الفراغ امتلاء،
فكيف لي ان أشِفَّ وكل كثافة ليست سواك (34).

هنا تتحدث الشاعرة عن وهم الوجود الإنساني ككائن سيؤول إلى الزوال، وبالتالي، ليس له وجود دائم، أما الفراغ او الغياب، فهو الحضور والامتلاء. اللامرئي والكامن هو الحضور المطلق، والوجود المادي ما هو
إلا الوجود المتيقن او المحسوس للمطلق الكامن في الأشياء المتيقنة والمحسوسة. وفي النص التالي، تصل الشاعرة إلى ذروة تصوفها:

ما أبحث عنه، أنت
لن تجد فيك سواي
درس أول في العشق،
أنائيل (35).

وبهذه المقاربة، تجمع الشاعرة في هذا النص بين مذهبين من مذاهب التصوف: مذهب الحلولية، ومذهب وحدة الوجود. والمذهب الحلولي يعني حلول الله في المادة والطبيعة والانسان، ويعَدُّ الحلاج أبرز ممثلي هذا المذهب، أما مذهب وحدة الوجود، فيعني ان الله والطبيعة والإنسان تعبير عن كيان واحد، ويعد ابن عربي من أبرز ممثلي هذا المذهب، وكذلك الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا الذي يقول (الله هو العالم، العالم هو الله).
ترى الشاعرة أن الله فيها وهي فيه، وأن الله في قلبها، وأنها في قلب الله. أما صرختها: أنائيل، المكونة من ضمير المتكلم في العربية "أنا" وضمير الغائب في الفرنسية "il" هو – والتي تعني "انا هو"، فإنها تشبه صرخة الحلاج: أنا هو، وهو أنا؛ ولا ندري إن جمعت المذهبين، كما نرى ظلالهما هنا في هذه القراءة، بقصد أم دون قصد؛ فاللامعرفة والسؤال- كما تقول نداء- هما ذروة كل تحقق، نشوة لا نقبض عليها، حالة الدوران التي لا تقرأ فيها ما يقوله من يدعون امتلاك الحقيقة بل تلك الحقيقة التي تنبع من تجربتها-معرفتها الذاتية وتريها الحقيقة في مرآة لا تحملها، فأي مرآة أعظم من الروح، وكما تقول هنا:

أ‏دور ‏‏ليس ‏ليحملنِي الهذيانُ
‏أ‏و ‏أرى على ‏‏أطرافِ تنورةٍ ‏ما يقرأ ‏العارفون،
‏بل لأرى صورتَك ‏في مرآةٍ؛ ‏
‏لا ‏أحملها‏.