الكاتب: محمد نعيم فرحات
"لكل أعالي أقاصي، وفي أقاصي أعالي العروبة
الثقافية والروحية ورهاناتها تقيم الجزائر،
وما قيل فيها يوما، يصلح لقوله على مدار الزمن"
فصل من فقه الجزائر
تتكون سردية الجماعات والشعوب عبر عملية مركبة وطويلة، وقدما مع الزمن يتشكل ضميرها الجمعي وطريقة وعيها وتعريفها لنفسها ورؤيتها للآخرين والعالم والوجود.
العلاقة العبقرية التي تقوم بين الإنسان ومكانه: بأبعادها الثقافية والروحية والتاريخية والاجتماعية والوجودية، هي التي ترسم على صفحات الزمن وأهدابه، وفي ألواح الوعي الفردي والجمعي علاماتها الكبرى ورمزياتها التي تقول، وتشير، وتدل على: هوية بعينها، وطبائع الجماعات والشعوب والأمم وخياراتها، وما تُجمِعُ عليه صوابا وخطأً، وتصوغ طرائقها في التعبير عن نفسها.
الإطلالة على الجزائر من هذه الشرفة، كإقليم وكشعب ووعي، له تشكيلة العضوي الممتد والمتين، تقول لمن يعنيهم الأمر الكثير. تقول لهم بأن الجزائر: بلد يمتلك سيادة عميقة في نفسه وعليها، على نحو يتجاوز التعريف والفهم القانوني والسياسي المتداول للسيادة، مثلما هو سيد في عالمه.
*
تقدم السياقات التاريخية إمكانيات فهم وتفسير للثقافات وتجارب الشعوب وطرائقها في التفكير والتعاطي مع الواقع، تجربة الجزائر في مقاومة الاستعمار الفرنسي التي استمرت بلا توقف على مدار 130 عاما، وصولا لتحقيق الاستقلال مطلع ستينات القرن الماضي، كان لها أثر بالغ في تشكيل الوعي الجزائري المعاصر وتعبيراته عن نفسه في كل صعيد.
في سياق ملحمي جزائري الطابع والمزاج، تم رفع معنى التراب الوطني في وجدان الجزائريين: من "مساحة " معروفة القوام، ومن "معنى" يستحق الموت لآجلة، إلى حيز "المقدس" بإجماع عميق يجري توارثه. وتبنى الجزائريون منذ أمد بعيد " النيف" كتعبير كثيف إلى حد التوتر عن الكرامة كمرتكز لا يمكن فهم سيكولوجيتهم بدونه، فيما صارت قيمة "التضامن" مع الآخرين/ المظلومين حيثما كانوا أحد مكونات ثقافتهم.
موقف الجزائر من فلسطين وقضيتها، الذي يتقاطع فيه البعد الداخلي مع البعد الخارجي على نحو جذري وخاص، كان من أعلى تعبيراتها عن جوهر وعيها وعن خياراتها، وتم التعامل مع فلسطين باعتبارها من صلب التراب الوطني الجزائري وقداسته، وكقيمة سامية في أعماق وجدان الجزائر وأعالي وعيها.
فلسطين، كفكرة روحية لها قوام في الجغرافيا والزمن، وكبلاط للسماء يمكن لمسه بالعين واليد والحواس والروح مؤيدة بسيل من العلامات القادمة من الغيب، لها حضورها الفريد عند أمتين على نحو يجعلها من أعز الممتلكات الرمزية الأكثر كثافة عندهما، وتاريخها كان حافلا بأطماع وادعاءات لعجم واغراب لهم أباطرة وإمبراطوريات غزوها مدججين بمشاريع هيمنة على الزمن والمعنى.
هذا الرصيد الروحي المستقر والمتفاقم تاريخيا لفلسطين في وجدان أمتها، تحول بعد احتلالها عام 1948 لجرح فعلي ورمزي يطرح أسئلة الوجود الخالدة، عن: التحرر والانعتاق والخلاص والحق، على ما قال محمود درويش يوما، وأصبحت عنوانا لمظلمة هي الأبرز في العصر، وصارت الاختبار الأشد قسوة للوجدان الفردي والجمعي للعرب والمسلمين والبشرية برمتها.
الفهم الجزائري لفلسطين أنتج مقولاته منذ وقت مبكر، كثفها الراحل احمد بن بله عندما قال "إن استقلالها الجزائر سيبقى منقوصا طالما لم يجري تحرير فلسطين" والراحل الهواري بومدين عندما قال بصيغة تقرير" إن الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، وقد تواصل هذا الموقف عند الجزائر في كل المراحل اللاحقة بعد بن بله وبومدين، وصولا لحقبة زعامة الرئيس عبد المجيد تبون، التي تأتي في لحظة بالغة الحرج والتعقيد لفلسطين والعرب والإقليم والعالم.
في عالم كاسر، قاس، خذل نفسه وكل القيم الكبيرة ويحكمه منطق متوحش، قليلون هم القادرون على جعل الكرامة قيمة حاكمة ومفهوما مؤسسا في سلوك دولة وشعب، وتحمل اكلاف مثل هذا الخيار في كل الظروف. أو تحويل التضامن مع المظلومين ومساندة العدل والحق لموقف دائم.
*
في أحدث ادورها تحاول الجزائر على نحو باسل سياسيا، جمع أشلاء وعي العرب من بين أيادي سبا التي تفرقوا فيها عن طيب خاطر غريزي لا زال يتحكم فيهم، وتسعى لأخذهم من حيز الضلال الاستراتيجي المبين والعداء للمنطق وللذات ولبعضهم البعض نحو افق أخر مختلف.
الجزائر تعرف جيدا طبائع الكيانات الشقيقة وغرائزها، وتعرف من يصلح منها ومن لا يصلح، وتعرف نواياها ومدى استعداداتها، سواءً: بخصوص العمل المشترك أو الموقف من فلسطين، لكنها تبذل جهدا مضنيا لوضع دليل عمل غير غرائزي وغير فاشل، ينظم علاقة العرب بأنفسهم وبزمنهم وبمصالحهم وبعواطفهم وبالأمم التي تجاورهم "من هاجس الروم واطماعهم إلى فلك الجوار الفارسي فالتركي" على ما قال محمود درويش نفسه في يوم أخر مع بعض الإضافة لما قال.
ولأن الجزائر لا تستطيع أن تكون إلا هي نفسها، فقد استلت فلسطين كفكرة وكقيمة وكدعوة وكقضية من حيث توجد في أعماقها، وحاولت أن تستخرج مصالح العرب تجاه أنفسهم من التيه والضلال والتردي الذي يعشه أغلبهم، على قاعدة لم تعلنها صراحة هي" درء المفاسد أولى من جلب المنافع" طالما أن إقامة العرب في حيز المفاسد تطول، فيما توجههم نحو ما منافعهم يبدو وكأنه بعيد المنال، كما يقول ذلك شاهدهم وغيبهم السياسي معا.
في العمل المركب، الذي يتحرك في حقل سياسي: متدني وغرائزي وبدائي، كما هو الحال عند اغلب كيانات العرب، تتحول القاعدة الشرعية التي تتحدث عن" درء المفاسد" لهدف كبير، لأنها تقلل من الخسائر، وتندرج في فقه" أضعف الإيمان". والعمل بقاعدة أضعف الإيمان يصير إنجازا سياسيا، مع كيانات، لا تريد، ولا هي مؤهلة في نفس الوقت، لإبداء، أي يقظة أو صحوة، كي تدرك اللحظة وتتعامل معها بصورة مناسبة.
*
أيا كان وضع العرب، ستظل الجزائر كما كانت، ذخرا وسند استراتيجيا في ذاتها وفي عالمها والتزاماتها وخياراتها، وسيبقى لموقفها وصوتها، مدىً وصدىً مسموع، سواء في محيطها الحميم او البعيد، بلد كبير في المساحة والقدرات والدور والعزم، يعبر عن وجدانه بموقفه على نحو بالغ الوضوح، ويلقي بدرسه على طريقته لمن يعنيهم الامر، بكرامة وسيادة واستقلال.
*كاتب واستاذ جامعي من فلسطين، امين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع.