الثلاثاء: 03/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

هوامش من ندوة تونس "عن دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية والعنف ضد المرأة"

نشر بتاريخ: 06/12/2022 ( آخر تحديث: 06/12/2022 الساعة: 18:45 )
د. محمد فرحات
د. محمد فرحات

الكاتب: محمد نعيم فرحات

تطرح أسئلة العرب نفسها على نحو بسيط، غير أن الإجابة عنها تأخذ الوعي والوجدان نحو أفق متعب ومرهق: نفسيا وثقافيا وأخلاقيا وحضاريا ووجوديا.

متلازمة تعب الإجابة عن الأسئلة، هي "منتوج" لا يتفوق فيه أحد على العرب، الذين يتعثر أغلبهم في أخذ الحياة على نحو ملائم في كل صعيد، ويميلون بغريزة يرعاها وعي عليل، لتحويل الفرصة إلى محنة، ورفع الضرورة الممكنة إلى حاجة بعيدة عن متناول خطواتهم ووعيهم. فيما تقول تجربتهم مع الزمن، بأن مشاكلهم مع البديهي قد كانت كثيرة، وأن اغلبهم قد حولوا الحياة كفرصة وكهبة لحقل من التجريب المضني دون استخلاص عبرة الضرورة وحكمة الأزمنة.

ندوة انعقدت بتونس يوم 25 نوفمبر الماضي، نظمتها وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن برعاية رئاسة الحكومة، في نطاق فعاليات 16 يوما لمناهضة العنف ضد المرأة، أعادت طرح أحد أهم الأسئلة الأولية التي تواجه المجتمعات العربية وتوقفت عند الإجابات المضنية أو ما يمكن تسميته بالإجابات المغيبة.

 رئيسه الحكومة التونسية السيدة نجلاء بودن

***

يتفق الجميع على أن العنف المادي أو الرمزي، الظاهر أو المستتر، هو أحد مكونات التاريخ والوجود الإنساني والطبيعي معا، وأنه لن يكون هناك تاريخ بدون عنف، غير أنهم يختلفون حول طبيعته وهويته ووظائفه وحيثياته واطر استخدامه ومبرراته وضروراته.

من زاوية أخلاقية وإنسانية فإن العنف وفي أي إطار مورس هو فعل عدوان، وهو ابن حرام له أباء كثيرون يرعونه، يقيمون براحة في تخوم الحقل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والنفسي والوجودي للمجتمعات. لكن التاريخ الذي تشكل القسوة واحدة من خصائصه ليس من عاداته التوقف مطولا عند الأخلاقي والإنساني إذا كان ضعيفا وبلا قوائم.

***

قضايا المرأة في المجتمعات العربية المعاصرة هي موضوع مطروح في مؤسسات التنشئة الأولية والثانوية، سواء الأصيلة كالأسرة والمدرسة والشارع، أو المستجدة كوسائل التواصل الاجتماعي وغيرها التي باتت تلعب من حيث التأثير وتستولي على دور المؤسسات الأصيلة والثانوية وما هو أكثر أيضا. وهي مطروحة أيضا عند الدولة والمجتمع ومنظومة من الهيئات الدولية، لكن تقيم نتائج هذا الاهتمام تشير إلى خليط منهك، مثل: أنها نتائج جزئية، وغير متكاملة، وغير متناسقة، وأحيانا غير موضوعية في قراءة الواقع وخصوصياته، وتكتنفها مشاكل في الخلفيات والخطاب والرؤية والبرامج والآليات والأهداف والتوظيف، وفي العقود الأخيرة تحولت إلى ما يشبه " سوق خاص" تجري فيه استثمارات متعددة، كثير منها لا يفيد المرأة ولا قضاياها. وبصورة عامة يمكن القول بان الحراك في هذا الحقل الأساسي لم ينتج حركة منظمة لها رؤية وحاملين، ولا يتجه لإنتاج نقطة تحول، حتى في المجتمعات التي قطعت شوطا بعيد وهاما في هذا الاتجاه.

وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن السيدة آمال بلحاج موسى ***

لكل ثقافة ومجتمع طريقته في الوعي والتفكير، وعلى أهمية الخصوصيات في طرائق تفكير المجتمعات العربية إلا أنها تشترك وتتفق على أن تذهب عند مواجهة الأسئلة والتحديات للتعاطي مع الأعراض أكثر مما تتجه للتعامل مع الأسباب البنيوية العميقة التي أنتجت هذه الأعراض. الموطن والطبيب والسياسي والدولة والمجتمع وما بينهما، يتعاملون مع ارتفاع درجة الحرارة في الجسم مثلا باعتبارها المرض، الذي يجب معالجته ولا تتعامل كثيرا مع الأسباب التي أدت إليه، وعلى هذا النحو يجري التعاطي عند العرب مع ظواهر: الفقر واليأس وغياب العدالة والعنف ...وهو ما يؤشر على وجود خلل عميق في جسد الوعي وقوامه عند العرب ظل له حضور تاريخي متواصل.ومن يذهب منهم نحو معالجة الأسباب العميقة يجد نفسه وحيدا، وقد يجد معه مخذولين آخرين مثله.

***

استعراض النقاش بخصوص قضايا المرأة في المجتمعات العربية على تفاوتها الثقافي والحضاري والفكري، يفضي لاستنتاج بأن المسالة لا تشكل عند اغلب الأطراف التي تشارك في النقاش قضية استراتيجية ترتبط بالأمن الوجودي العميق للمجتمعات ومتطلبا للترقي الحضاري لا يمكن تجاوزه.

في العقود الأخيرة، بات النقاش حول قضايا المرأة، كأنه يجري في هواء طلق، وليس بين حاملين تاريخيين واجتماعين، معنيين برؤيتهم وبالتعبير الملموس عنها في حقل الواقع ومراكمة ذلك في مكتسبات، سواء في النصوص أو في نفوس الناس، ومرة أخرى يجري العودة إلى طبائع التاريخ الذي يقوم على عمل البنى والفاعلين ويعصف بالهواء الطلق ونقاشاته، إلا إذا كانت مرتبطة بحاملين حقيقيين متجذرين في ارض الواقع.

***

تداول قضايا العنف ضد المرأة، يجب أن يتسع وينفتح على بعد أخر هام وأساسي، هو هامش العنف الذي تمارسه المرأة، بما في ذلك عنف وعيها إزاء نفسها، وهذا ضروري لتحرير خطابها من الشكوى، ولرفعه نحو أفق موضوعي واسع ومتفوق في الرؤية.

كما يشكل الأمر مدعاة، كي يأخذ النقاش بخصوص المرأة ويقود وعي المجتمعات العربية للتعامل مع قضاياه الأساسية المتعددة والمترامية، كدعوة يجري تحويلها إلى إيمان يشارك فيه الجميع ويعمل لأجله الجميع، وبلورة الاستراتيجيات والسياسات المناسبة التي تحدث التحول وتمنع الواقع من إعادة إنتاج بؤسه.

بالتزامن يحتاج الأمر من الأطر النسائية العربية المعنية بقضايا المرأة قراءة تجربتها بروح نقدية، وإحداث التغير المناسب في الأطروحات، وإشكال التعبير وآليات النفاذ المناسبة لرؤيتها في وسط اجتماعي معقد وصعب ومنهك.

وفي هذا السياق فإن واحدة من المسائل الأساسية التي يحتاج الوعي النسوي العربي للتوقف عندها، هي: كيف ستحصل النساء على المساواة والعدالة والإنصاف والتكامل وعيش خال من التعنيف مع رجل شريك، ليس حرا ويعيش داخل سجون نفسيه وثقافيه واجتماعية واقتصادية وسياسية ووجودية.

هنا يحتاج الخطاب النسوي العربي داخل كل مجتمع على حدة وعلى نحو جماعي أيضا، لانفتاح حقيقي يدمج في صلب مقارباته هدف تحرير الرجل ذاته من سجونه الذهنية والفعلية، كشرط للانعتاق الجماعي الشامل، والعمل من اجل المجتمع برمته وخياراته الكبرى، وبذلك يتفوق الخطاب النسوي العربي فكريا وأخلاقيا وموضوعيا على نفسه وزمنه وخصومه، ويلاقي الضرورة التاريخية للنهوض الحضاري في أعلى مداراتها.

***

في ثقافة التونسيين كما في ثقافة المجتمعات العربية الأخرى، عندما يريد الناس أن يتعاقدوا ليصعدوا في المواقف والالتزامات نحو أفق أخلاقي أنساني رفيع، يستخدمون كلمة غزيرة المعنى هي "برجولية" والرجولية هنا، هي تكثيف لقيمة أخلاقية لا ترتبط بالرجال وحدهم بل بالنساء أيضا. كما أنها قيمة مشتركة لهما معا تتجاوز نسبها اللغوي نحو معناها الأخلاقي.

نساء العرب ورجالهم يحتاجون للذهاب "برجولية" في الرؤية والوعي والممارسات نحو الضرورة التي تضمن لهم الحلول لمشاكلهم المختلفة والنهوض والترقي متمثلة في خيار "المواطنة" وثقافتها وخياراتها التي تضمن المساواة والعدالة والتكامل، بما يكفي من الإيمان والقناعة والعمل التاريخي المجدي، أو يظل بديل هذا الخيار استمرار المراوحة المنهكة، في مأزق بنيوي تاريخي عميق يأكل أزمنتهم وآمالهم وعواطفهم ومصالحهم.

----------------------------------------------------------------------------

*كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين.

**مناسبة هذا الكلام كانت ندوة دولية عقدتها وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في تونس، التي تتولاها الوزيرة آمال بلحاج موسى، نلت شرف الدعوة للمشاركة فيها مع مشاركين ومشاركات من: تونس ولبنان واسبانيا وايطاليا والسنغال، بالإضافة لمديرة منظمة المرأة العربية ورئيسة قطاع الشؤون الاجتماعية بجامعة الدول العربية، وكانت الفعالية برعاية السيدة نجلاء بودن رئيسة الحكومة التونسية.