الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ألانتخابات التشريعية الفلسطينية والمراجعات المنقوصة/ بقلم : محمد مشارقة

نشر بتاريخ: 12/03/2006 ( آخر تحديث: 12/03/2006 الساعة: 20:23 )
كثيرة هي المراجعات التي اعلنتها اطر فلسطينية في محاولة لتقييم هزيمتها امام حركة حماس في الانتخابات التشريعية الاخيرة ، وتعد هذه الفصائل شعبها وجمهورها بوثائق كاملة ومعمقة في وقت لاحق ، بما يشي ان ما صدر كان سريعا وسطحيا ولا يؤخذ على محمل الجد .

غير ان خيطا مشتركا يربط هذه المراجعات ، وهو تقصدها الابتعاد عن قراءة الاسباب الجوهرية والعميقة لهذه الهزيمة أو الزلزال السياسي ، والعودة الى استخدام العدة الفكرية والسياسية القديمة في التحليل لتصل بداهة الى استخلاصات تؤبد الحالة الراهنة التي قادت الى الخسارة في الانتخابات التشريعية والانكشاف المريع على حالة من العجز والخراب وضيق الافق السياسي والفكري والانهيار التنظيمي .

فحزب الشعب ( الشيوعي سابقا) تحدث عن " غياب الهوية الفكرية والطبقية الواضحة للحزب " وتلكؤه في الدفاع "عن مصالح الفقراء والعمال والفلاحين" وفشله في ان يكون "منارة ومركز جذب للمثقفين الثوريين.." والمخرج براي الحزب " هو تحديد هويته، ليكون حزبا يساريا ديمقراطيا" >

غير ان الاستخلاص الاساس الذي ينبغي التوقف عنده هو اعتبار تحالفه الطويل مع حركة فتح ( حزب السلطة ).."هو احد الاسباب في فشل الحزب لان هذا التحالف ترك انطباعا لدى الجماهير بان الحزب تابع صغير، يشارك في سلطة فاسدة الأمر، الذي اضر بمصداقيته كثيرا" تم تصل المراجعة الى انه " كان الأجدر بالحزب أن يكون في موقع المعارضة ">

ان الثغرة الابرز في هذه المراجعة الشيوعية تتمثل في انها تصلح لكل زمان ومكان ولا تبتعد كثيرا عن مدونات المدارس الحزبية السوفيتية وعدتها النظرية التي تتحدث عن الهوية الطبقية وتمثيل الطبقة العاملة بعلمها او بدونه بوجودها او عدمة ، وتغفل الواقع الملموس والتاريخ والجغرافيا .

أما حركة فتح فقد حمل بيان كتلتها النيابية في البرلمان وهم اعضاء في المجلس الثوري للحركة حمل على الخارجين على عصى الطاعة التنظيمية والترشح خارج القوائم الرسمية ، وتطرق البيان الى غياب دور مكتب التعبئة والتنظيم وتاخر بدء الحملة الانتخابية وعدم وضوخ الرسالة السياسية لللحركة .

الواضح ان المراجعات الاولية التي جرت بما فيها ما صدر عن الجبهة الديمقراطية ، لم تقترب من الجوهر السياسي للازمة والاسباب الحقيقية للتراجع والفشل ،وفي الجوهر منها موضوعة التحالفات ، وفي تقديري ان اي مراجعة لا تبدأ من تقييم التسوية السياسية والمفاوضات في السنوات العشر الاخيرة على الاقل ستكون قاصرة عن رؤية المشهد بكل ابعاده ، ولان التحديد الدقيق في وصول هذه التسوية الى طريق مسدود ، يشكل برايي مفتاحا اخر لتوصيف المرحلة وسماتها باعتبارها مرحلة تحرر وطني وكذا لتحديد مفهوم السلطة والمعارضة ونوعية الحزب السياسي والتحالفات الداخلية ، والاتفاق على نوعية العلاقات الدولية والاقليمية التي تخدم الاهداف المباشرة لمرحلة التحرر الوطني ، لان الخلط الذي وقع في الاهداف ، بين مهمات التحرر وبناء الدولة ، اسس عمليا لخلل في الاولويات الوطنية ، لمقتضيات الدولة واستحقاقاتها واخرى لمهام ازالة الاحتلال ،وباتت اكذوبة البناء المصمم والممول خارجيا عبئا على مهام التحرر.

هنا غرقت حركة فتح في متطلبات والتزامات الدولة وهيكلهاالذي جرى اسقاطه على واقع متناقض ،حيث الدولة المحتلة تسيطر على الارض والهواء والمياه للشعب المحتل ، تتحكم في مصيره ومصادر عيشه ووقته ، وسهلت على نظر المجتمع الدولي قصر التزاماته على تدريب وتأهيل الفلسطينيين لادارة شؤونهم والاشراف على عملية تفاوضية لما تبقى من النزاع .

وانشغل الحزب الحاكم في توطين اعضائه وكادراته في ادارات الدولة بامتيازاتها وشروط معيشتها ، فيما انشغلت حركة حماس في ترسيخ نفوذها في المعارضة الشعبية عبر شبكة معقدة ودقيقة من المشاريع الخدمية والتعليمية والخيرية والصحية على قاعدة صلاحيتها لبيئة صديقة واخرى معادية.

ولهذا تمكنت حماس من الصمود والتطور وتدريب القادة الميدانيين رغم استهداف قادتها بالقتل والاعتقال ، وتكشف عشرات الامثلة من عمر السلطة الفلسطينية على الخلط القاتل بين مهام التحرر والبناء في كيفية تعايش اهل الحكم مع الاحتلال رغم تهميشه للسلطة وهيبتها واذلال قادتها ،حين قبل هؤلاء بفتات الامتيازات التي منحهم اياها الاحتلال على حساب الشعب .

وأسوق هنا مسالة قد تبدو تفصيلية لكنها تحمل دلالات سياسية واجتماعية عميقة ،كما توضح مدى العزلة التي تعيشها السلطة ، وهي تسابق بعض القيادات في السلطة واجهزتها على شراء السيارات المصفحة واخرها سيارة كانت في طريقها الى رئاسة المجلس التشريعي ، وتصل كلفتها الى 241 ألف دولار ،بالطبع لم يكن هذا النوع من السيارات لمواجهة خطر التصفية والاغتيال الاسرائيلي .

ان نظرة فاحصة للسلوك الاسرائلي في السنوات الخمس الاخيرة من اعادة الاحتلال ومصادرة الارض ، واطباق الحصار على قطاع غزة ، تؤشر الى ان محاولات افراغ السلطة التدريجي وبخطة منظمة من محتواها الوطني تحقق نجاحا ، ومن الطبيعي ان يفقد هذا المبنى شعبيته .

لقد تحولت السلطة الفلسطينية فعليا الى ادارة ذاتية ، ساهمت الى حد بعيد في تخفيف الاعباء الاخلاقية والسياسية عن اسرائيل ، وهمشت دور الشتات الفلسطيني والممثل الشرعي والوحيد منظمة التحرير ، كما واضعفت حركة التضامن الدولية مع نضال الشعب الفلسطيني ، ولا غرابة ان تتشدد اسرائيل في كل ما من شأنه ان تحول السلطة الى دولة كاملة السيادة باستثناء الطقوس والمظاهر السلطوية ، الرئيس ،المجلس التشريعي ، الاستقبالات والتشريفات .

كما سلطت الاضواء المتلفزة والمريبة على مشهد البروتوكولات الرئاسية كلما تنقل الرئيس الشهيد ياسر عرفات من مدينة الى اخرى ، البساط الاحمر ،الفرقة الموسيقية وحرس الشرف ، لقد اعد المشهد المضلل بعناية فائقة ، بكل ما يحتاجه من ترميز ضروري لمظاهر الدولة .

وتوالدت بالتتابع حول هذا المشهد مئات المنظمات والواجهات الوهمية غير الحكومية الممولة من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة والمنظمات اليهودية على وجه الخصوص التي اتفقت على شروط عديدة في مركزها اشتراط التمويل ان يكون البرنامج مشتركا مع اسرائيليين ، ودائما لا يمكن اللقاء في القدس او رام الله وغزة ،ولهذا فالعواصم الاوروبية هي البديل المناسب ، هكذا نشأ ما بات يعرف بتجارة اوصناعة المؤتمرات ،التي استقطبت مئات الاكاديميين والنشطاء والمناضلين السابقين الذين انسحبوا من احزابهم ليمارسوا هذا النوع من التجارة المربحة.

لكن الذي جرى فعلا ان هذه الوفود كانت سرايا و طلائع تخريب حلف التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني ومناهضة الاحتلال ، والمثال الساطع الذي يحضرني الان ، الدور الذي لعبه د. سري نسيبة رئيس جامعة القدس في تفكيك قرار مقاطعة الاكاديميين البريطانيين للجامعات الاسرائيلية التي تقيم فروعا لها في مستوطنات المناطق المحتلة ، والمثال الاخر هو البرنامج الذي تموله منظمة يهودية امريكية لاحضار طلبة اسرائيليين وفلسطينيين الى الجامعات البريطانية للتعايش وعقد الندوات المشتركة ، والهدف واضح وصريح " اقناع الشباب وخاصة المسلمين المتطرفين في هذه الجامعات بفكرة السلام بين الشعبين الاسرائيلي والفلسطني " .

ولا يخفى على أحد ان كل هذه الانشطة كانت تتم بدعم وموافقة قيادة السلطة وحركة فتح ، ولم يكن ليجرؤ اي من القادة على المجاهرة بموقفه المعارض لفكرة اللقاءات المجانية ، لان لذلك تبعات سياسية وشخصية ، واضيف ومن موقع المعايشة الخاصة ، ان العديد من مقاولي هذه المشاريع كانوا يستعينوا بالاسرائيلي وبالسفارات الاجنبية لترهيب بعض القيادات التي ترفض هذا النهج الضار .

لقد ساهمت السلطة في ترويج اوهام السلام الكاذب ، وفتحت الباب على مصراعيه للتطبيع المجاني العربي مع اسرائيل ، وتنازلت عن ورقة تفاوضية مهمة ، رغم ادراكها المتأخر ان التطبيع العربي لم يزد اسرائيل الا غطرسة وتصلبا .

هل تدفع هذه الخلاصة المرة نحو اعادة تقعيد الامور في وضعها الطبيعي ، والذي يقول بأن الفلسطنيين لا زالوا تحت الاحتلال وان المرحلة تحمل كل سمات التحرر الوطني .

ان الاتفاق على هذه الارضية من شانه وضع كل المراجعات والتقييمات في اطارها الصحيح ، لان ذلك يعني بداهة اعادة النظر في مفهوم السلطة والتنظيم والاطر الاهلية ، وضعها على سكة تؤمن مشاركة الشعب بكل فئاته في الداخل والخارج في معركة التحرر وانهاء الاحتلال .

و هذه البداية قد تعيد لحركة فتح وحلفها القومي والديمقراطي الميزة النسبية والموضوعية ومصدر قوتها وصمودها طيلة العقود الاربعة الماضية ، كما وقد يؤهلها لاعادة احتلال دورها الريادي في الكفاح ، فالتيار الوطني والديمقراطي الذي شق طريق الاستقلال بصعوبة في بيئة دولية واقليمية بالغة التعقيد وفي ظل خصوصية وحساسية تتصل بوضع الدولة العبرية ، يمكنه اليوم بعد تجربة الانتخابات الاخيرة ان يعيد النظر في اساليب الحكم والنضال والتفاوض وتعديل المسارات ، لان البيئة الدولية غير مواتية اليوم لانقلابات جذرية ، خصوصا اذا ما اعتمد قادة حماس تجريب افكار ربط النضال الفلسطيني بالصراع الديني بين الاسلام والغرب ، او ربط الحقوق الوطنية لشعب يرفض الاحتلال بقضايا كشمير والتاميل في سيريلانكا او في تجيير الورقة الفلسطنية بما تحمله من عدالة سياسية واخلاقية لحسابات اقليمية كبرى.

ان الاعلان الصريح بالعودة الى اساسيات وبديهيات الصراع مع اسرائيل ، يشكل حجر الزاوية في مسيرة المراجعة ، وقد اضاف الاحتلال عنصرا جوهريا الى ادواته ، تقربه من طبيعة النظام العنصري في جنوب افريقيا في الشكل والمضمون ، فالجدار الفاصل والبوابات التي حلت مكان الحواجز ، حولت المناطق المحتلة الى بانتوستانات ومعازل حقيقية ، ولم يبق الا الشارات الصفراء على سواعد الفلسطينيين لتميزهم عن اليهود .

ان هذا التطور النوعي يزود القوة الكفاحية والاخلاقية للنضال الفلسطيني برسالة جديدة للعالم ولكل القوى الديمقراطية والانسانية ، قوامها ان الاهداف الفلسطينية بانهاء الاحتلال والاستقلال وانهاء النظام الكولونيالي العنصري الذي يشكل خطرا على البشرية وعلى السلم والاستقرار الاقليمي والدولي هذه الاهداف لا زالت قائمة .

ان القوة الاخلاقية للنضال الفلسطيني لا يمكن ان تستقيم دون حسم موضوع المقاومة بكل اشكالها باعتباره احد اشكال القوة في الموقف الفلسطيني ،وبالتالي معالجة اللبس والغموض الذي لحق بهذه الاستراتيجية ،فقد وصل الفلسطينيون الى وضع عجزت فيه السلطة عن حماية شعبها والدفاع عنه في وجه القتل ونسف البيوت والاعتقال داخل مناطق ما يسمى بالسيادة الفلسطينية ، كما جرى التنكر للمقاومين والمعتقلين واسر شهداء حركة فتح ، وبالاوامر الصريحة لقوات الامن والشرطة الفلسطنية بعدم الاشتباك مع قوات الاحتلال ،ألحق العار بهذه المؤسسات ، بالموافقة العملية على تحويلها الى حراس للاحتلال ، او الى جيش من الخدم والمرافقين لطواويس السلطة ، الذين باتوا يخشون شعبهم اكثر من خوفهم من الاحتلال .

هنا تكمن أهمية التأكيد على المسؤولية التنظيمية الكاملة عن الاذرع المسلحة وضبطها للقرار السياسي ، فالتردد وشلل الارادة السياسية سمح بتمرد كتائب الاقصى وتحولها الى ثغرة في خاصرة حركة فتح بل وانتقالها الطبيعي الى منافسة حركة حماس في ملعبها ، بنقل الصراع الى داخل اسرائيل وضد اهداف مدنية ، مرسخة التداخل الضار بين صورة الضحية والجلاد ، بل وأبعد من ذلك ، فقد سمح هذا النهج الملتبس من المقاومة للانتهازيين والباحثين عن مركز قوة داخل التنظيم باستخدام مجموعات المقاومة كمطية لتحقيق اهدافهم الضيقة ، كما سمح ايضا لقوى خارجية باختراق فتح عبر تمويل المجموعات المسلحة ، وحرف اهدافها المرتبطة بالبرنامج السياسي لفتح والسلطة والمتمثل باقامة الدولة المستقلة على الاراضي المحتلة عام 67 الى جانب دولة اسرائيل .

المسألة الاخرى التي اصابها الخلل في النظام السياسي تتصل بالعمل داخل معسكر العدو ، فالغموض والتناقض في حدود الاهداف الفلسطينية وادوات واساليب الكفاح ساهم في ارباك قوى السلام داخل اسرائيل ، بل اضعفها ، والغريب ان حركة فتح والسلطة ، كسرت القاعدة التي سارت على هديها فتح ومنظمة التحرير تاريخيا و تقول بان اللقاء مع اية قوة سياسية واجتماعية داخل اسرائيل يشترط اولا موافقتها على رفض الاحتلال وممارساته القمعية والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والدولة ، لتتحول هذه القاعدة الكفاحية الاساسية الى لهاث خلف القوى اليمينية المتطرفة والتقليل من شان القوى الديمقراطية والسلمية باعتبارها اطرافا مضمونة ، لتفتح الباب على غاربه لتجار اللقاءات والمؤتمرات ،والتي لم تسفر جهودهم سوى عن زيادة موجة التطرف نحو اليمين بل وتراجع قوى عقلانية عن مواقفها المتقدمة من الحقوق الفلسطينية لتعود الى قاعدة الاجماع القومي في اسرائيل كما حدث مع حركة ميرتس .

ان مقتل السياسة التي قادتها حركة فتح في مرحلتها السلطوية تمثل في التخلي التدريجي عن كل عناصر القوة ، التزاوج الخلاق بين المقاومة بكل اشكالها وبين العملية السياسية والتفاوضية ، وحدة الشعب في الداخل والخارج ، والموقف الاخلاقي لقوة الحق الفلسطيني ، وهي الركائز التي يمكن اعادة البناء عليها مجددا تحت اعلام حركة تاريخية كفتح أو غيرها إن تخلفت .

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لندن