المخرج الفلسطيني رائد دزدار يستعيد يافا من خلال إعادة بنائها من الذاكرة والوثائق
الكاتب: تحسين يقين
هل كان بالإمكان!
"انا نزلت على البحر وصفنت.. وقلت له انت متذكرني؟"
"اه... بس أنا زعلان منك؟"
ليش؟
"انا هجت مرتين علشان ما تطلعوا"....كلمات سهام الدباغ.
لكن، كان ما كان، ليؤكد زكي النورسي في آخر الكلمات: ستعود روحي يوما ما الى يافا.
يافا!
يافا، وصمت، كأن المفردة هنا لغة وحكاية ووطن.
يافا، بمد حرف الألف، كما ينطقها راوي الفيلم، تختصر الحكاية، وتختزل 74 عاما من نكبتها.
موج جميل، موجات تجري وراء بعضها بعضا، بمصاحبة موسيقى معبرة، حيث تطل يافا اليوم، ثم ليأتي تاريخ المكان المرتبط بتاريخ فلسطين.
التاريخ القريب لنكبتها ينسينا تاريخها العريق، لذلك سنبدأ بالمقابلات، كي نعيد جميعا من خلال الرواة بناء المدينة الأكثر حضورا في الوجدان الفلسطيني.
نحن إزاء مقابلات لها أهمية تاريخية وإنسانية وفنية، من خلال تقسيم ممكن عن جوانب حياة يافا، من خلال مقابلات تناولت كل جانب، إلا أنه كان صعبا ربما أن تكون المقابلات محددة تماما، حيث تداخلت المواضيع والمضامين، تبعا لتدفقات من كانت تتم مقابلتهم.
المشهد اليافي العام:
اشترك في هذا الجانب، الذي تناول يافا بشكل عام كل من : تحسين الكريدلي، وأنطون خوري، وصلاح الدباغ، وأحمد نور السقا، والفنانة تمام الأكحل، وسهام الدباغ، وازدهار الفرخ، وفؤاد شحادة، وأبو نزار أبو شحادة (الذي بقي باقيا هناك). وهنا جرت الأحاديث عن المدينة، من خلال تموضع بيوتهم في يافا، مثل شارع النزهة وتلة العرقتنجي، حيث كانوا جميعا، بما فيهم الباقي أو نزار أبو شحادة، يصفون يافا كأنها أمامهم فعلا، بما يعني كم رسخت المدينة السليبة في العقول والقلوب. صحيح أن أعمارهم عام 1948 مختلفة، لكن من كان/ت طفلا أو طفلة، كتمام الأكحل(التي تحدثت مبتسمة) عن مشاهدتها للميناء خصوصا مشهد تنزيل السيارات الحديثة في الميناء من خلال الرافعات الكبيرة. النساء مثل ازدهار الفرخ وسهام الدباغ تحدثنا عن طقوس العيد، والكعك، فيما تحدث آخرون عن حالة الانسجام بين السكان من مسيحيين ومسلمين. في حين ربط فؤاد شحادة بين يافا وبيروت التي قدمت أسرة والدته (صروف) منها.
حداثة وتنوير تعليم راق
اشترك في هذا الجانب فيوليت ناصر(معلمة صغيرة) وأحد أبناء يافا من الجيل الجديد الباقي الباحث سامي أو شحادة، ود. محمد أبو لغد، وزكي النورسي، وطاهر القليوبي، وخير الدين أبو الجبين.
ظهرت مدارس يافا التي كانت تعلم باللغتين الفرنسية والإنجليزية تأسست 1863، ومدرسة العامرية التي كان مديرها الأستاذ علي شعث، والمدرسة العدوية.
وبالطبع كان يصاحب الروايات صور وفيديوهات تظهر تلك المدارس، ليتأكد لنا عمق التنوير والحداثة التي كانت يافا تعيشهما.
صحافة:
اشترك في هذا الجانب: د. سليم تماري (باحث ومن عائلة يافية عريقة ويقيم في رام الله) وخير الدين أبو الجبين، وفؤاد شحادة المحامي؛ فيافا كانت مركز الصحافة ولم يكن غريبا أن أهم رموز الصحافة منها امثال الراحلين محمود ابو الزلف وآل العيسى و آل الشنطي وآل السبع. وبالرغم أن الصحافة، والصحف اليافية، شكلت خلفية للكثير من الروايات هنا، لما يقرب من 25 شخصية، كونها وثيقة جوانب حياة المدينة الحية، إلا أن المخرج قد خصص جانبا لها، حيث ظهر تطورها الملموس، ظهرت صحف فلسطين والدفاع والصراط ونداء الأرض (التي تضمن نكاتا سياسية على ما يبدو كنوع من النقد السياسي). وظهر دور الإعلام هنا في ثورة عام 1936، ومن ذلك توسيع ميناء تل أبيب خلال إضراب عمل ميناء يافا الإضراب المشهور في السنة نفسها.
وبالطبع كان يصاحب الروايات صور وفيديوهات تظهر الصحف، والمستوى العظيم للصحافة في يافا،
كما تم إيراد جزء من أغنية "يا أم العباية" لسهام رفقي التي كانت تزور يافا لإحياء حفلاتها، كون الصحافة قد كانت مجالا للحديث عن الفنانين الزائرين ليافا، والذين كانوا يضعون إعلانات في صحف يافا.
تجارة:
اشترك في ذلك كل من: زكي النورسي، ابن تاجر، الذي تحدث عن ازدهار شارع إسكندر عوض، الذي شبهه بشارع الحمراء في بيروت، حيث تراه يقول عبارة هامة وصف بها يافا: مدينة عصرية بكل معنى الكلمة.
كذلك عدلي الدرهلي وأحمد نور السقا وسهام الدباغ وخالد البيطار الذي انتقل للحديث عن بلدية يافا والانتخابات والتعيينات، كون والده عبد الرؤوف وعمه عمر شغلوا منصب رئيس البلدية.
الانفتاح والمواصلات:
اشترك في ذلك كل من أبو نزار أبو شحادة، والياس سحاب، وأنطون خوري، وصلاح الدباغ، وعدلي الدرهلي، وخالد البيطار.
دلّ الحديث هنا على سهولة تحرك اليافي والفلسطيني الى بلاد الشام ومصر، وتم التركيز على خط الساحل وصولا الى بيروت. وهنا جرى حديث عن مأسسة خطوط السيارات والباصات، وبالطبع الأسعار. 70 قرش من يافا الى بيروت ذهابا وإيابا. وبالطبع ظهرت الصحف كوثائق جاءت مصاحبة كأنها تروي هي الأخرى عن تلك الأيام.
المقاهي ودور الفن والطرب:
اشترك في ذلك كل من: طاهر القليوبي وأحمد نور السقا، وأنطون خوري، وأبو نزار أو شحادة.
ظهرت رواياتهم (كلهم هنا ذكور) عن المقاهي المشهورة، بما فيها الرواية الطريفة عن قهوة اشتهرت "بقهوة التيوس"، حين خط رجل مرّ من المكان هذه الصفة فالتصقت بالمكان.
والمهم هنا أن المدينة، كمدينة حضارية متمدنة، قد وجدت فيها دور الفن والموسيقى والرقص (دور اللهو كما يتم الوصف عادة). وظهر هنا من خلال الوصف والصور في الصحف والفيديو المصاحب أن بعض دور اللهو كانت عصرية جدا. والمهم أن يافا بكل شرائحها، كان كل مواطن فيها يجد مكانا للاستجمام والترفيه.
وهنا انتقلت الكاميرا والرواة معا فنادق الى نواد ومطاعم الشاطئ، وإن لم يطل المقاوم فيها طويلا. وهنا فإن كل من فؤاد شحادة الذي تحدث عن تأسيس عمه لفندق الكونتننتال، وطاهر القليوبي، الذي روى عن مطعم ونادي "الدعدع" ، الذي ظهر كم كان راقيا وعصريا، لعل الصورة لعائلة بالمايوهات تدل على الانفتاح.
الصناعة اليافية:
اشترك في الرواية كل من: تمام الأكحل(عن الملابس) ومحمد أبو لغد، وعلي المنياوي، وإلياس سحاب، وأحمد نور السقا، وسامي أبو شحادة (الشاب الوحيد الذي ظهر كباحث هنا)، ويبدو أنه من أقرباء الراوي أبو نزار أبو شحادة، الذي ذكر عن صناعات راقية متقدمة في الصابون والدخان والمشروبات والثلج وهياكل السيارات والبلاط (9 مصانع).
والبرتقال:
وهو لربما أشهر ما في يافا!
اشترك في الرواية كل من: سامي أبو شحادة، وسليم تماري، وتمام الأكحل، وخير الدين أبو الجبين، وعلي المنياوي، وإلياس سحاب، وأنطون خوري، وخالد البيطار الذي تحدث عن ال 5 ملايين صندوق برتقال التي تفوق عائدات البترول في ذلك الوقت. كذلك راح أبو نزار أبو شحادة يفصل أنواع البرتقال. وتم إيراد الصناعات والأعمال والأدوات المرتبطة بموسم البرتقال، كم تم إيراد الصور والفيديوهات، ليختتم هذا الحديث بأغنية من ذلك الزمن.
مواسم: "يا بتروبيني يا بتطلقني"
اشترك في الرواية كل من: طاهر القليوبي وازدهار الفرخ (دائمة الابتسامة العذبة) وخير الدين أبو الجبين وإلياس سحاب المؤرخ الموسيقي. وهنا يجري حديث عن موسم النبي روبين وطقوسه، وعادات السكان، كل له مكانه. نسمع رواية ازدهار الفرخ عن طعام الإفطار. ثم لنسمع مقطعا من أغنية: "زهر الليمون يا ابيض منور على اغصانك" من التراث اليافي.
والموسيقى والغناء والفنون:
ثمة ارتباط كبير بأهل الفن ويافا، فأهلها ذواقون ومحبون للغناء.
يشترك في الرواية كل من: محمد أبو لغد وإلياس سحاب، وخير الدين أبو الجبين، وزكي النورسي، وتحسين الكريدلي، وازدهار الفرخ، وعدلي درهلي، وسهام الدباغ.
يفتتح ذلك الحديث محمد أبو لغد، عازفا على العود، ليتحدث عن الفرق الفنية الوافدة الى يافا من خلال القطار أو السيارات. وكيف أن تلك الفرق بعد أن تقيم فترة في يافا، تنتقل الى بلاد الشام والعراق. ويتذكر هنا الراوي تحسين الكريدلي عن حضور الفنانة الكبيرة فاطمة رشدي لمسرحية كان يمثل فيها وهو طفل.
والسينما:
والسينما في يافا تحتاج فعلا فيلما خاصا بها.
يشترك في الرواية كل من: خالد البيطار ومحمد أبو لغد، وأنطون خوري، وأحمد نور السقا، وزكي النورسي، ونبيل رملاوي، وصلاح الدباغ، وتحسين الكريدلي، وأخير الباحث سامي أبو شحادة.
وهم وهن، من مرتادي السينما في يافا، يبدو ذلك من خلال الوصف الدقيق؛ فقد عادت الى الحياة سينما: الحمراء، التي بناها نفس المهندس اللبناني الذي بنى سينما روكسي في بيروت، وفقا لخالد البيطار وإلياس سحاب. وظهرت سينما نبيل وسينما رشيد وسينما فاروق وسينما الشرق. يتخلل ذلك صور وفيديوهات تصاحب السرد، وهنا يتذكر الرواة ليلى مراد في فيلم غادة الكاميليا، ونجيب الريحاني في فيلم سلامة في خير، وفيلم النفخة الكدابة لحسن فايق. كما يظهر إعلان للسيدة أم كلثوم على واجهة إحدى دور السينما، حيث كانت دور السينما مسارح. يتذكر أنطون خوري زيارة الفنانة صباح في أواخر الأربعينيات، فيما تتذكر سهام الدباغ طقوس أسرتها من النساء الذهب الى دور السينما. ثم ليصدمنا الباحث سامي أبو شحادة في حديثه عن أن عدد مقاعد دور السينما اليافية بالنسبة لعدد السكان، يفوق أهم المدن الأوروبية. ثم ليختتم بمقطع من أغنية صباح "وبعدين معاك".
إذاعة الشرق:
منظومة متكاملة من الحياة الثقافية والفنية والصحفية، حيث يكون من المناسب هنا الحديث عن الإذاعة، أي عن محطة الشرق، التي تم أسسها الانجليز خلال الحرب العالمية الثانية، لنقل أخبار الحرب.
يشترك في الرواية كل من: محمد أبو لغد، وخير الدين أبو الجبين، وكامل قسطندي وإلياس سحاب، وتمام الأكحل.
حينما يتحدث خير الدين أبو الجبين عن الإذاعة ويأتي على ذكر كامل قسطندي المذيع، يظهر الأخير ليشارك الحديث. في حين تتحدث تمام الأكحل عن عمها المطرب المعروف رجب الأكحل. ويجري حديث مهم عن استضافة الإذاعة للفنانين والكتاب العرب خصوصا من مصر مثل محمد عبد الوهاب والعقاد.
من أهم المتدخلين هنا الياس سحاب كمؤرخ موسيقي حين يؤكد أن تطور الموسيقى العربية (وبالأخص موسيقى الأخوين رحباني) في لبنان بدأ في يافا، يذكر وينوه لدور صبري الشريف الكبير في النهضة الموسيقية اللبنانية.
في هذه الأثناء نسمع مقطعا من أغنية "البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي لرجاء عبده"، فيحضر معها ذلك الزمن. وأيضا أغنية نيل يا نيل لعبد الوهاب التي سجلها في يافا.
الرياضة:
يشترك في الرواية كل من: خير الدين أبو الجبين، وأحمد نور السقا، وتحسين الكريدلي، وتمام الأكحل، وفؤاد شحادة، وأنطون خوري، وزكي النورس، وأبو نزار أبو شحادة، ومحمد أبو لغد.
لعل المظاهر الرياضية من أهم المظاهر الحيوية لأية مدينة عريقة، ولم تكن يافا استثناء، حيث عرفت النشاطات الرياضية في المدارس والنوادي، مثل النادي الإسلامي والنادي الأرثوذكسي، وهذا الراوي خير الدين أبو الجبين، الموظف في أحد النوادي، يتحدث عن كيفية مساعدة الانجليز للرياضيين اليهود في مقصد واضح في السيطرة على الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم والذي تأسس عام 1927 مما أدى للانفصال عن هذا الاتحاد والذي أصبح صهيونيا، حيث جرى حديث عن الصحافة الرياضية المزدهرة، والمسابقات (تمام الأكحل)، في حين يذكر فؤاد شحادة ابن العائلة الثرية، عن نادي التنس الذي اقتصر على العائلات الارستقراطية. في حين يتذكر أنطون خوري كيف كانت تقام حفلات راقصة، في حين يذكر زكي النورسي عن طه حسين محاضرا في النادي، وأبو نزار أبو شحادة يذكر رياضة الملاكمة الوافدة من مصر. كما يأتي أحمد نور السقا على ذكر استشهاد فخري قرنوح وهو أحد نجوم كرة القدم في حرب عام 1948. خلال ذلك نرى مقطع فيديو لمباراة بين فلسطين وأستراليا عام 1939، كما نرى الصحف وأخبار الرياضة.
الوداع:
بدأت الدقائق الأخيرة من الفيلم بالحديث عن قرار التقسيم عام 29 نوفمبر كانون الأول 1947، حيث طلب الصهاينة أن تكون يافا مدينة مفتوحة، وهذا يعني تبعيتها لتل أبيب، فلم يقبل شعبها، واختاروا الدفاع عنها. حيث يذكر الباحث سامي أبو شحادة أن الصهاينة يرون في يافا تهديدا استراتيجيا.
يشترك في الرواية كل من: تمام الأكحل، وأبو نزار أبو شحادة، وزينب ساق الله، وازدهار الفرخ، وعدلي الدرهلي، والمعلمة فيوليت ناصر، وخير الدين أبو الجبين وأنطون خوري، وطاهر القليوبي، وأحمد نور السقا، ومحمد أبو لغدـ وسهام الدباغ، والمنياوي. وكما نلاحظ فإن هذا الجزء تحدث عنه معظم الرواة.
ولعلنا نقف عن بعض الروايات: تمام الأكحل تتذكر نسف مبنى السرايا، عدلي الدرهلي يتذكر الرياضي الشهيد قريبه زكي الدرهلي، فيوليت ناصر تعود الى بيرزيت، خير الدين أبو الجبين وقرار العائلة بالهجرة رغم عدم النية بترك يافا، أحمد نور السقا والذهاب الى غزة، سهام الدباغ ووشوشة البحر وعتابه لترك اسرتها يافا، حيث تروي أن في المرتين اللتين ركبت الأسرة (قاربا) كان الحبل ينقطع، فتعود الى يافا، الى البيت، بكل الحزن. طاهر القليوبي وأنطون خوري عن قصف العصابات ليافا بقذائف الهاون وقصف المنطقة التجارية. وكيف طوقت العصابات يافا من ثلاث جهات. وصلاح الدباغ وكيف بعث والده الأسرة الى بيروت، وكيف حين رأى يافا من كوة السفينة، شعر أنه إنما يودعها لأخر مرة. أما سهام الدباغ فتحدث كيف اصطحبت الأسرة ملابس الصيف، لا الشتاء، يقينا منهم جميعا أنهم عائدون قريبا فلماذا يحملونها. وأكثر من متحدث عن السرقة والنهب، ومنها سجاد يافا الفاخر الذي جاءت سيارات كبيرة حملته من البيوت اليافية ونقلته فيما بعد ليباع في نيويورك بالمزاد العلني، كي يكون ثمنه جزءا من تمويل دولة إسرائيل.
من 120 ألف يافيّ ويافيّة لم يبق إلا ثلاثة آلاف، تم وضعهم في منطقة العجمي، ووضعت العصابات على مدخله: "جيتو العجمي"، حيث يروي الرواة حسرة هؤلاء الذين لم يمنعوا فقط من العودة الى بيوتهم، بل منعوا أن يذهبوا اليها لإحضار حاجياتهم.
آخر الفيلم: محمد أبو لغد في رثاء إنساني شجن:" كنا ناس عايشين نعزف على الكمان والان صرنا مشردين". أما أنطون خوري، وعلى خلفية جواز سفره الفلسطيني، لم يعد يحتمل الرواية بالكلام، فهطلت دموعه الساخنة كي تعبر عما آلت له يافا.
وبالطبع يستمر المخرج في عرض الوثائق الصحفية والفيديوهات. ثم أغنية "يافا شفت العجب" من اوبريت يافا على البال.
كل ما تم ذكره من تنوير في القرن العشرين، يربط الماضي الحضاري ليافا، التي اشتق اسمها من الجمال؛ ف"يافا" تحريف للفظ الكنعاني "يافي" وتعني الجميلة، التي يمتد تاريخها إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد، بحيث بناها الكنعانيون، وغزاها الفراعنة والأشوريّون والبابليون والفرس واليونان والرومان، وخضعت لكل الممالك الإسلامية، هي التي لم تسلم من الغزو النابليوني العام 1799، إلا أنها بدأت تتعافى بعد جراحها الكبيرة، خاصة في فترة حكم الوالي "أبو نبوت" للمدينة، قبل أن تقع تحت الحكم المصري بعد سيطرة إبراهيم باشا على فلسطين في العام 1830، ونمت المدينة وتوسعت بأحياء جديدة خارج أسوارها، كـ"سكنة درويش"، و"سكنة أبو كبير"، و"تل الريش"، و"إرشيد"، (ربما كان هناك قطع ما بين 1830 فترة الحكم المصري وبداية الحرب العالمية الأولى 1914) حيث كان يرافق الوصف لوحات وصور فوتوغرافية، أو فيديو كما في ظهور نهر العوجا، ثم ليزداد في إيراد الصور الوثائقية والفيديوهات عند الحديث عن أواخر الحكم التركي وبداية الاحتلال الإنجليزي، والحرب العالمية الثانية، فالصراع وما آلت له يافا من احتلال وتخريب، حيث تبوح الصور عن الاحتلال وسرقة الممتلكات، واضطهاد أصحابها الأصليين. وفي كل ذلك كانت السماء زرقاء والبحر، وإن غطاهما الدخان في فترات الحرب على يافا.
خطر يافا التنويري القومي
أية جريمة ضد الحداثة والتمدن كانت؟
وبعد، فقد تجاوز الفيلم نوستالوجيا الحنين، إلى اكتشاف لعمق جريمة، تعدّ واحدة من أهم جرائم الاعتداء على الحضارة الإنسانية، حيث أنه منذ الربع الأول للفيلم سيتساءل المشاهدون سؤالا أخلاقيا وحضاريا في آن واحد: كيف سوّلت للعصابات الصهيونية نفسها بتخريب يافا!
لقد ذكر الباحث سامي أبو شحادة أن "الصهاينة رأوا في يافا تهديدا استراتيجيا"، حيث أن حضورها المتمدن والحضاري يشكل تفوقا على المدينة الجديدة، تل أبيب، التي تكونت كمدينة لليهود، في حين كانت يافا مدينة تزدان بالتعددية الدينية والثقافية؛ فلم يأت وصف يافا ب "أم الغريب" عبثا، فهي مكان جذب للعمل والإقامة، وأي إنسان يجد نفسه فيها يستطيع أن يعمل ويقيم فيها، وبذلك تكوّن سكانها متعددو الأصول والطبقات، جمعتهم يافا وانتموا لها.
في الحروب دوما منتصر ومهزوم، وهذا أمر عاديّ، لكن غير العادي هو تخريب المنجز الحضاري، وتهجير بناة الحضارة، ونفيهم بل وذبحهم، وأسر الباقي، في هدف خبيث وهو العزف على لحن أن فلسطين هي أرض بلا شعب.
الثقافة والتمدن الحضاري ودور السينما وصناعة "البرتقال الذي كان يقايض بأحدث انواع السيارات الأوروبية في ذلك الوقت"، الى جانب المسرح والفن والرياضة وزيارة اساطين الفن العربي امثال ام كلثوم وعبد الوهاب لإحياء الحفلات فيها الى جانب نشر اهم الصحف الفلسطينية لهو دليل حي على ان فلسطين كانت تنافس اوروبا في مضامير الحياة الراقية. والحق أن الوفرة المالية اليافية، والمستوى الثقافي للسكان، هو ما جعل يافا مشاركة حضارية أكثر منها مستوردة له. ويمكن أن تكون يافا مثل المدن التركية الراقية التي انتقلت إليها حداثة أوروبا ومظاهر التمدن العصرية، ساعد ذلك كونها مدينة ساحلية، تجارية وزراعية وسياحية أيضا. لقد صدق ابن يافا زكي النورسي حين وصف يافا: مدينة عصرية بكل معنى الكلمة.
فنيا:
وثائقية إنسانية تاريخية، نقلتنا جميعا إلى يافا، فرحنا نعيش أحدثها حدثا وصولا لأقسى درجات الألم، والأمل والحنين وتزاحم الأسئلة، وعلى رأسها: لم حدث هذا كله؟ وكيف ولماذا!
بالرغم أن المخرج قد قسم الفيلم من خلال المقابلات للحديث عن جوانب حياة المدينة المزدهرة، بما في ذلك ما كان يحل بالمدينة من غزو، وصولا لسقوطها في أيدي العصابات الصهيونية، إلا أنه كان صعبا ربما أن تكون المقابلات محددة تماما، حيث تداخلت المواضيع والمضامين، ما منح الفيلم حيوية.
لقد نجح رائد دزدار في إعادة بناء يافا، من خلال فيلمه ورواته، فاستعادها حرة، من خلال ترك رواته يروون بحرية التحدث على سجيتهم في إطار موضوع الفيلم العام.
لقد كانوا جميعا، بما فيهم الباقي أو نزار أبو شحادة، يصفون يافا كأنها أمامهم فعلا، بما يعني كم رسخت المدينة السليبة في العقول والقلوب.
عند طرح كل موضوع من حياة يافا، كنا إزاء روايات الذين واللواتي تمت مقابلتهم. صحيح أن كل رواية-مقابلة كانت تكون على حدة، لكن بالمجمل منحنا ذلك على تصورهم المتحدثين معا حول كل جانب، وكأنهم في ندوة.
موسيقى: أضفت المختارات الموسيقية تأثيرا، حيث كانت سيناريو سمعيا، بالإضافة الى أربع أغاني، أغنية يا أم العباية، لسهام رفيقي، وأوبريت يافا على البال، خاصة مقطع "من نابليون وأبو الدهب يا يا يافا شفت العجب"، واغنية صباح، وعبد الوهاب.
كنا إزاء فيلم هام، شكّل بانوراما وثائقية ربما تقود المخرج نفسه، ومخرجين آخرين نحو تفصيل ما جاء مجملا؛ حيث أن كل جانب في المدينة، وفي الفيلم عنها، يمكن ان يكون له فيلم خاص. ولعل قيام المخرج بالبحث التاريخي قد منحه المصداقية من جهة، والإحاطة بتاريخ المدينة الحديث عشية لحظات سقوطها، مستحضرا جوانب حياتها، التي أراد لها الغزاة الموت.
أحسن المخرج في الخاتمة لا في التأثير العاطفي فقط، بل في السؤال الوجودي والفلسفي، هل كان بالإمكان؟
"متذكرني ؟
اه بس زعلان منك؟
ليش؟
لقد هجت مرتين علشان ما تطلعوا"..تلك كلمات سهام الدباغ، التي تخيلت حوارا مع البحر، حين زارت يافا بعد زمن على ضياعها.
سيكولوجيا المتكلم:
من المهم أيضا، وهذا ما لا تحتمله الدراسة هذه، أن يتم مشاهدة الفيلم بالتركيز على الرواة الذي تمت مقابلتهم/ن، من حيث الزمن الذي تمت فيه المقابلات وأعمارهم، وموجودات المكان الذي تمت فيه المقابلة، وبالطبع خلفية الشخصية، والأهم السحنة من منظور سيكولوجي.
صوت اليافيين/ات، مستوياته وما يحمل من مشاعر عميقة جدا، لعل مخارج الحروف نفسها حملت المشاعر.
عيونهم، كأن كل منهم ومنهن يقرأ أو يشاهد. عيونهم الدامعة المتماسكة، التي أخيرا هطلت، كما دموع أنطون خوري، وهو يتحدث عن أمس كيف كانوا، وما حدث بعد نيسان 1948, يلفت النظر هنا نظرات متماسكة أقرب للجمود، كما لدي سهام الدباغ وزكي النورسي، الذي بالكاد ظهرت ابتسامته الحزينة. في حين يلفت النظر وجه ازدهار الفرخ الذي ظل باسما في رواياتها المنثورة طوال الفيلم.
فؤاد شحادة كان في معظم حديثه كونه ضريرا ينظر الى الأعلى، لكن هل من سماء ليافا أو لعل يافا في سمائه ظلت باقية!
ويذكر أن صوت الراوي...كان منسجما مع موضوع الفيلم، وأضفى جمالا خاصة.
قضايا بحاجة لبحث:
مصر وفلسطين: بمشاهدة الفيلم، تعمق لدينا العلاقة الوثيقة التي كانت تجمع حواضر الشرق العربي في بلاد الشام ومصر، خصوصا حاضرتي القاهرة ويافا، حيث لا تكاد تظهر رواية أو صورة، إلا وفيها شيء عن فلسطين ومصر.
عاصمتا فلسطين القدس ويافا:
في الجزء الأخير من الفيلم، يتحدث الباحث سامي أبو شحادة عن تخطيط المدينة عام 1946، وهو يرى بأن القدس هي العاصمة الدينية وفيها مراكز الحكومة، وأن يافا هي عاصمة فلسطين الحقيقية، وهي قلبها النابض.
ب "يافا أم الغريب"، يواصل المخرج الفلسطيني رائد دزدار مشروعة السينمائي التوثيقي الجاد والتنويري، حول فلسطين الذي بدأه ب "هنا القدس" و"الأخوين لاما"، بما يدلل على وعي المخرج الخاص.
كيف صارت "يافا أم الغريب" غريبة وأهلها غرباء!