السبت: 30/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

مع كتاب "من الطرد الى الحكم الذاتي: المسعى الصهيوني لوأد فلسطين" لعلي الجرباوي

نشر بتاريخ: 26/05/2023 ( آخر تحديث: 26/05/2023 الساعة: 14:36 )
مع كتاب "من الطرد الى الحكم الذاتي: المسعى الصهيوني لوأد فلسطين" لعلي الجرباوي


الكاتب: تحسين يقين
إذا أردنا ربط الأمور ببعضها بعضا، فإن أقصى ما يمكن أن تقدمه المؤسسة الصهيونية هو "سجن واسع في قطاع غزة عن طريق إيهامنا بدولة فلسطينية هناك شبه مستقلة بمطار وميناء، وسجن أصغر في الضفة الغربية، ولذلك فإن الحرب هناك على غزة وهنا في الضفة هي للتمهيد لوضع جديد، وصولا الى جبرنا عليه، إما هذا الحل أو هذا الحال.
الكتب تقودنا الى الأرض، والأرض تعيدنا اليها، الكتب..التاريخ..إننا ونحن نقرأ كتاب "من الطرد الى الحكم الذاتي: المسعى الصهيوني لوأد فلسطين"، فإننا نعود الى الأرض والكتب معا والى أنفسنا أين كنا.
إهداء الكاتب كتابه لحفيده جود وحفيدته عليا وجميع أطفال فلسطين، لكي نتعلم من أخطائنا ولا ننسى، لتبقى جذوة الأمل متقدة"، أعادني الى طفولتي.
الشخصي عام في فلسطين، ومجموع ما هو ذاتي يصير وطنيا وعاما، حيث يصعب هنا تجنب موضعتنا زمنيا، ونحن نقرأ التاريخ الفلسطيني لنصف قرن مضى، قراءة تحليلية نقدية، اين كنت وأين كنا ونكون؟ وأين سنكون؟
في حزيران عام 1967، كنت في بطن أمي رحمها الله، لكن حين موعد الميلاد في موسم العنب، كان قسم الولادة بمستشفى الأوغستا فكتوريا (المطلع) على رأس جبل الطور، معطلا، بسبب تعرضه للقصف من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، لذلك رأت عيوني نور القدس في وادي الجوز، في مستشفى الهلال القديم. في عام 1970، كنت ابن 3 سنوات، فلا أذكر رحيل عبد الناصر، لكن الأطفال الأكبر عاما أو عامين، رووا لي كيف أن نساء بيت دقو، شكلن حلقة ندب عليه، تشوقت فيما بعد ذلك بثلاث عقود، أن أجمع مما تبقى من النساء الكلمات قد قيل في تلك الحلقة، حيث أن نواح "الدقاويات" يؤكد أن هذا الرحيل ليس رحيلا عاما لقائد، بل خاصا وذاتيا، كأن جمال عبد الناصر أحد أفراد الأسرة العربية. قبل أشهر روى لي أخي نصار أنه أول مرة رأى والدي الحاج يقين يبكي بحزن، وهو يسمع إذاعة القاهرة. كان فقده فقدا ذاتيا فعلا. أما في أكتوبر رمضان 73، فسمعت عن الحرب ولم أرها، لكن في سماء ملعب مدرستنا الصغيرة رأيت طائرات، فتساءلت طفلا: " كيف حرب بدون جيش قدام جيش". في عام 1976، حفر والدي بئر ماء في "التعميرة"، من خلال الفأس و"النخل"، كان ذلك إرادة منه؛ فقد قيل "ظنون يصير بير". أما لماذا انطبع عام 1976، في ذاكرتي، فلأن أخي سعيد الأكبر مني بعامين، قد علم على القصارة بإصبعه تاريخ البئر. ولعلنا نذكر ما كتبته العاشقة على حور الطريق، في "بكتب اسمك يا حبيبي".
بعد ذلك بعام، في موسم الزيتون، كنا نتنقل بين سطح البيت، نرقب طائرة الرئيس محمد أنور السادات القادمة الى مطار اللد، وتلفزيون دار خالي، الذي يبث بثا مباشرا الزيارة. كان ذلك في 19 نوفمبر 1977، إلى القدس. كنت ابن عشرة سنوات، وأذكر بدقة رد فعل والدي وخالي فخري مرار رحمهما الله. أما والدي فتابع ذلك محايدا، غير منفعل، مكتفيا بالاستماع، وبالطبع كان والدي يحب مصر كثيرا ككل العرب، وكان يحبها أكثر لأن أخي الأكبر كان طالب في كلية طب جامعة القاهرة. أما الخال فخري، وهو مناضل عريق من رفاق عبد القادر الحسيني، فقد كان متفائلا، وأذكر كلماته بأن "اليهود راح يطلعوا من البلاد). أما أنا فمنذ تلك الزيارة وأنا أحتار في الموقف العربي: كيف يصالح فريق ويحارب فريق، لأصل بعد ذلك ببضع سنوات، الى أنه صحيح أن فريقا صالح إسرائيل، أما من لم يصالح فإنه لم يحاربها.
في عام 1979، و1980 و1981، نتذكر حادثة تفجير سيارتي رئيسي بلدية نابلس والبيرة، بسام الشكعة وكريم خلف، وما تلا ذلك من مظاهرات ضد الحكم الذاتي والإدارة المدنية وروابط القرى، وهكذا في مدرسة الملك غازي في بدو، بدأت حياتنا السياسية ونحن ندخل ال 12 عاما، منذ الصف الأول الإعدادي، لتستمر الرحلة ما دمنا نسمع ونرى ونبصر؛ فالمدرسة الثانوية تختلف عن مدرستنا الصغيرة (ام ال 3 غرف).
- حلو!
- لا مش حلو إلا ماء بئر التعميرة، المعطر بطعم تراب الأرض ورائحته.
تذكرت تلك الأيام، وأنا أقرأ كتاب البرفسور علي الجرباوي: من الطرد الى الحكم الذاتي "المسعى الصهيوني لوأد فلسطين". والحقيقة أن الكتاب لم يذكرني فقط بأيام الطفولة، بل بكل الأيام، حيث ربط من جهة أخرى ما قرأته آخر 20 عاما، في التاريخ الفلسطيني، الخاص بالتسويات، خصوصا في كتب كل من الشهيد صلاح خلف ود. نبيل شعث وشفيق الحوت، وخالد الحسن وآخرين ممن ألقوا الضوء على فلسطين الماضي القريب الحاضر والمستقبل.
مقدمة الكاتب، الفقرة الأخيرة نقرأ، "بالرغم مما يطفو على السطح حاليا من مظهرية نجاح إسرائيل في فرض إرادتها عل الفلسطينيين، وما نجم عن ذلك من استعصاء الوضع الفلسطيني والمعاناة مما يبدو كأنه انحباس للخيارات، فإن القضية الفلسطينية لم تنته، ولم يغلق بابها، بل يستمر مشرعا، ينتظر الإغلاق لصراع لم يحسم"، تقودنا الى آخر الكاتب، وهو التمسك بالأمل والحق، بتأمل لما كان من أخطاء، للتعامل مع الصراع من خلال منظور طويل الأمد. والتأكيد على "استمرار تعزيز الوجود..كون الوجود والثبات هو الحجر الأساس الذي سينكسر عليه المشروع الصهيوني"، ووسيلة ذلك "تحولات فلسطينية عميقة ليس على مستوى النخبة فقط، وإنما داخل مختلف فئات المجتمع". ف "لا يمكن، ولا يجوز ل “حكم ذاتي خارج نطاق السيادة الإسرائيلية أن يكون نهاية مطاف القضية الفلسطينية".
"ماذا بعد"، جزء من الفصل الأخير في الكتاب، يقودنا الى ما قبل، والى ما يدور الآن في فلسطين "وأكناف فلسطين".
على مدار 517 صفحة، تجول بنا المفكر والأكاديمي الفلسطيني علي الجرباوي في المكان عبر الزمان، وفي الزمان عبر المكان، في كتاب له فضيلة ترتيب الوصف والتحليل والتأريخ الأمين، مقدما لنا إطارا نظري للحكم الذاتي، ومنطلق الاحتلال في جعله خارج نطاق السيادة، أي إبعاد قانوني للفلسطينيين. ولعلّ ذلك هو بيت قصيد كتاب الجرباوي.
ولعل فترة السبعينيات، هي من لفتت نظري، حيث نعود اليها الآن، نحن الذي ولدنا على حافتي هزيمة 1967، لنقرأ ما كنا نعيشه في تلك الفترة أطفالا وفتيانا، منذ حرب 1973، وبداية التسوية السياسية عام 1977، وما رافق ذلك من مشاريع الحكم الذاتي بشكل خاص، مرورا بروابط القرى 81-84 والإدارة المدنية، ومناحيم ميسلون المستشرق الإسرائيلي (أظن رسالته الدكتوراه كانت عن نجيب محفوظ) الذي ترأسها، بعد فترة كونه مستشارا للحكومة الإسرائيلية. وما بعد السبعينيات وصولا الى ما بعد حرب لبنان عام 1982، حيث كبرنا، وهكذا شبابا في انتفاضة 87، ومدريد وأوسلو. كبرنا وصرنا نفهم مقصد موشي ديان عن احتلال الضفة وغزة: "حكم لا مرئي" و"الغموض البناء".
قصة ممتعة السرد الواضح، المتسلسل بانسيابية، مثيرة الحزن والغضب إزاء ما كان (يقتبس الكاتب كلمات مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل 1979، الذي اغتبط فقال "حصلنا على السلام والأرض معا"، ساخرا بمبدأ التسوية: الأرض مقابل السلام) والذي مهد لما يكون، لعل الكتاب بداية، كما يأمل الكاتب "لكي نتعلم من أخطائنا ولا ننسى، لتبقى جذوة الأمل متقدة".
وقفت عند اقتباسين أوردهما الكاتب هما:
الأول" ما ورد صفحة 130، من خطاب ديان في "التخنيون" عام 1969: "ليس هناك مكان في هذه البلاد لم يكن فيه سكان عرب سابقون".
والثاني: للمفكر يشعياهو ليبوفتش: "خلال فترة زمنية قصيرة لن يكون في دولة إسرائيل عامل يهودي ولا مزارع يهودي، سيصبح العرب هم الشعب العامل، بينما سيصبح اليهود مديرين ومفتشين وموظفين ورجال شرطة. فالدولة التي تتسلط على شعب آخر من مليوني نسمة ستصبح بالقوة دولة مخابرات (شسن-بيت) مع كل ما في ذلك من أبعاد ومخاطر على التربية والثقافة وحرية الرأي والتعبير والتفكير والنظام الديمقراطي، وستدب فيها كل أسباب الفساد التي تسود الأنظمة الكولونيالية. وعندئذ ستضطر السلطة فيها الى الانشغال بقمع حركات التحرر العربية، وسيصيب جيش الدفاع الإسرائيلي التحلل والعفن بتحوله الى جيش احتلال ويتحول قادته الى حكام عسكريين" ص 149. "من اقتباس دكتور علي الجرباوي عن جريدة القدس 12/12/1988".
ما يشير لهما الاقتباسان هو وعي الإسرائيليين على وجود الشعب الفلسطيني الحيّ، وورطة الاحتلال بشكل خاص عام 1967، كما أشار أيضا له الكاتب د. علي الجرباوي، والذي نعيشه منذ حزيران النصر الذي لربما شكل تحديا لإسرائيل وما زال، بل لعله النصر والهزيمة في آن واحد، كون كشف وما زال يكشف عدم رغبة الإسرائيليين بالعيش معنا الا بحد السيف، بدولة وبدونها.
وأخيرا، كما قال الجرباوي: "لا يمكن، ولا يجوز ل “حكم ذاتي خارج نطاق السيادة الإسرائيلية أن يكون نهاية مطاف القضية الفلسطينية". وفي ظل تأكيده على "استمرار تعزيز الوجود..كون الوجود والثبات هو الحجر الأساس الذي سينكسر عليه المشروع الصهيوني"، فإننا ننتظر من الكاتب وغيره، بل أنفسنا التفكير جليا وعميقا في "التحولات الفلسطينية العميقة (والعربية) ليس على مستوى النخبة فقط، وإنما داخل مختلف فئات المجتمع"، والتي ستشكل فعلا لبداية تحرر فكري؛ فليس معقولا أن نظل مسكونين بما تمت هندسته لنا؛ فكل مشاريع التسوية انطلقت من عباءة ألون، وآن نزع تلك العباءة التي تستر قبح الاحتلال.
والآن، في ظل فهم لما كان، فإن المسؤولية الكبرى هي إرادة الغد. زمن المهم اختصار الوقت على الجيل الجديد ليفهم الآن لا بعد سنوات ما حيك ويحاك ضد حاضر فلسطين ومستقبلها.
صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للنشر 2023
[email protected]