الكاتب: هند زيتوني| سوريا
نعيش في متاهة الحياة بلا وعي مسبق أو تأمّل في وجه الموت، ذلك الوحش النائم الذي يربض خلف نافذة الوقت قد يستيقظ فجأةً، فموعد الفراق والرحيل مكتوبٌ على جباهنا منذ بداية الخلق، ومنذ سقوط ورقة التوت عن سوأة الزمن.
بعض الناس يموت في قلوبنا، وذلك أصعب أنواع الفراق، موت الإنسان الأكبر هو عندما يفقد أعزّ إنسان على قلبه، وعندما تجبره الظروف على الرحيل من أرضه.
يموت الإنسان عندما يظنّ أنّهُ لم يعد لديه أيّ شيء ليقدمه لأحد أو لنفسه، يموت عندما يصحو في الصباح فلا يكترث لأشعة الشمس، ولا لرائحة القهوة، وعندما يرحل كل أحبابه ويبقى وحيداً، يموت عندما يصبح قلبه صندوقاً ممتلئاً بالكره والحقد والقسوة، يموت عندما لا يعنيه أمر وطنه، ولا أمر شعبه لأن قلبه تحجر وأصبح بلا مشاعر. يموت الإنسان عندما يقتل روحاً بدم باردٍ دون أن يشعر بأيّة وخزة ضمير.
نحن نحيا دائماً على أمل اللقاء، ونعتقد بأن حبل العمر طويل، ولكنّ الحقيقة أنّهُ حبل قصير، قد ينقطع في أية لحظة، فمن أصعب الأشياء أن يرحل شخصٌ عزيزٌ على قلبك، تحمل له حباً بحجم العالم وكان ينشر في أوصالك الدفء والاطمئنان، شخص سيكون رحيله طعنة في القلب، وتعلم جيداً أنه لن يعود، ولن تلتقي به مرةً أخرى.
وأنت تحاول أن تتشبث بالذكريات، الأصوات، الرائحة، اللمسة التي بقيت معلقة على نافذة الروح، تسأل صارخاً: أين تذهبون أيها الأموات؟ هل أنتم سعداء في عالمكم الآخر؟
وقد تسأل نفسك ما جدوى هذه الحياة؟ وما هي حكمة هذا العيش المؤقت؟ لماذا شقي هاملت بأشباح ما بعد الموت مع أن الحياة نفسها مسكونة بأشباح أشدّ هولاً؟ فالهجر موتٌ بطيء، قد تتذوق الموت منه كل مرّة. وما الذي يواسي الإنسان في حزنه وغربته ومرارة فقده؟
في الحقيقة لا شيء يواسي قلب إنسان فقد روحاً عزيزة كانت تعني له الكون، وكأن الأرض كلها كانت تدور حول حضوره. ونحن نعلم جيداً أن عجلة الزمن لا تتوقف، وهي تدوس بأقدامها على كل شيء وتصبح وقتها كل اللحظات نصالاً حادة تطعننا بلا رحمة.
وقد ينسينا رحيل شخص عزيز على قلوبنا جرائم الحروب المستمرّة والمجاعات والإبادات الجماعية، والبلاد التي ترزح تحت الاحتلال، والسجناء الذين يقبعون في زنازين القهر، تُطحن أعمارهم وراء الجدران الباردة، وقد تنسى آلاف الدموع التي ذُرفت على المفقودين والمظلومين، فالذكرى شوكة آثمة تؤرّق صحوك ونومك إلى آخر لحظة في حياتك. ولكن هل الحزن ضعف؟
إن الأحزان مشاعر إنسانية مثلها مثل الفرح والغضب والخوف، وأنت لا تستطيع أن تكون مثل الآلهة أو نصف آلهة؛ لا تحزن ولا تضعف. فنحن تحت سطوة التقاليد، تعوّدنا أن نمارس حزننا خلف الجدران، وتعودنا أيضاً بأن الرجل يجب ألا يحزن فهذا يقلل من رجولته.
عندما نحزن نكون في حالة إنسانية من الشجن والألم ومراجعة النفس وعودة لالتقاط الأنفاس، فالحزن جزء من طبيعتنا البشرية، لا بد أن يأخذ حقه من تفكيرنا وذاتنا، وعلينا أن نعيش إنسانيتنا دون اختزال أو تشويه ومن غير مبالغة أو تضخيم، كما قال الدكتور محمد طه في كتابه الرائع (علاقات خطرة): "من حقنا أن نحزن دون مبالغة، وأن نفرح من غير خيلاء".
وعلينا قبول الفقد والتغيير وقبول الموت، فكل خطوة في حياتنا فيها فقدٌ، وكل ساعة وكل لحظة، فنحن نفقد طفولتنا وذكرياتها، نفقد غرفنا ولعبنا وسريرنا الصغير، بيتنا وشارعنا، وأحياناً نفقد الوطن، ليسرقنا المنفى، فتبقى أجسادنا هناك وقلوبنا في مكان آخر، وتبقى فينا شجاعة الحزن وبسالته.
قبول الفقد نجاة، وقبول الحزن حكمة، لا تدع أحزان الماضي وتجاربك المريرة السابقة تصبح كابوساً يؤرّق حياتك ومسيرتك، فهناك جراح لا تلتئم مهما فعلنا، تظل هكذا مفتوحة كالقبر الذي يحاول أن يلفظ جثته، فكل إنسان لديه جرح مفتوح كالزهرة المقدسة التي لا تذبل.
العجز شعور يصيب كل إنسان، كڤيروس مؤذٍ يمشي في الدم، والخوف شجرة تنمو في تربة الروح منذ لحظة الولادة، ومهما كان الإنسان قوياً وصامداً بوجه كل مصاعب الحياة، قد يصبح فجأةً مثل عصفورٍ ضعيف، عاجزٍ عن الطيران.
نحن نعلم جيداً أن الحياة يجب أن تستمر، وعلينا أن نستيقظ في الصباح؛ لنحتسي القهوة ونشاهد الأخبار، ونذهب للعمل من أجل لقمة العيش، وكأننا كائنات آلية تعمل بكبسة زر بسيطة.
تتكرر المشاهد، نمشي على الأرصفة، نتأمل الوجوه الضاحكة والوجوه التائهة والباكية، نفتحُ صفحة جديدة في كتاب العمر لندوّن عليها آلامنا وشجوننا ودموعنا، وفي لحظة صدق نصحو من وهم الحياة، ونعرف أن الموت حق وكأسٌ لا بدّ من ارتشافه.