بيت لحم-معا- تحت عنوان"سلطة فلسطينية ضعيفة و"إسرائيل جديدة" قومية ودينية" توصلت ورقة بحثية اعدها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، شخصت من خلالها واقع الحال فيما يتعلق بمات وصلت اليه اوضاع السلطة الفلسطينية والازمات الداخلية والازمة السياسية مع اسرائيل والتي اخذت منحى خطير ينذر بتصادم تطورين، أحدهما فلسطيني والآخر إسرائيلي.
ما تضمنته الورقة :
وضع السلطة قد تكون هذه اللحظة نقطة تحول في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ربما بنفس أهمية نقطة التحول تلك التي تبلورت قبل 30 عاما بالضبط وأصبحت تعرف باسم عملية أوسلو.
وفي حين أنه من الصعب تقييم النتيجة المستقبلية للديناميات الحالية، إلا أنها لا تبدو جيدة بالنسبة لفلسطين أو إسرائيل. سيتشكل المستقبل القريب عند تصادم تطورين، أحدهما فلسطيني والآخر إسرائيلي.
في الجانب الفلسطيني، وصلت السلطة الفلسطينية الآن إلى النقطة التي لم تعد فيها قادرة على تلبية توقعات إسرائيل الأمنية بالكامل في ضمان "احتكار" القوة المسلحة في المناطق الخاضعة لسيطرتها. ويتجلى هذا التطور حاليا في تشكيل جماعات مسلحة يقودها شباب فلسطينيون في المدن ومخيمات اللاجئين، وأبرزها في الجزء الشمالي من الضفة الغربية.
علاوة على ذلك، يعتقد الفلسطينيون اعتقادا راسخا أن التكاليف التي فرضت على إسرائيل خلال الانتفاضتين الأولى والثانية هي التي أقنعتها باعتبار الدولة الفلسطينية مصلحة وطنية إسرائيلية. وهذا الاعتقاد بفاعلية القوة هو الذي يغذي الآن صعود الجماعات المسلحة في الضفة الغربية.
على الجانب الإسرائيلي، تظهر "إسرائيل جديدة" تتميز بأيديولوجية قومية دينية حريصة على تحجيم إسرائيل العلمانية التي عرفها الفلسطينيون خلال معظم السنوات الثلاثين الماضية، منذ اتفاق أوسلو، وعلى تأكيد سيطرة إسرائيل الدائمة على الضفة الغربية. إن تشكيل اليمين الحالي، أي القومي والقومي-الديني، والحكومة المتطرفة الراهنة التي تمثله والتي تهيمن عليها لأول مرة في تاريخ إسرائيل أحزاب سياسية دينية وقومية-دينية في الغالب، هو أوضح إشارة حتى الآن على التطور الثاني. تُعيد "إسرائيل الجديدة" الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى جذوره التاريخية الوجودية.
تستكشف هذه الورقة الظروف التي أدت لتبلور الواقع الراهن والتي يمكن أن تؤدي إلى الاصطدام المتوقع وكيف يمكن للفلسطينيين والإسرائيليين تجنبه. في سيناريو الاصطدام، تستمر السلطة الفلسطينية في فقدان شرعيتها وثقة شعبها، ويزداد ضعفها بسبب التدابير العقابية الإسرائيلية والتوغلات العسكرية المتزايدة في الأراضي الفلسطينية. ويمكن أن يؤدي التأثير المشترك لذلك لانخفاض قدرة السلطة الفلسطينية على فرض النظام والقانون، مما قد يؤدي إلى زيادة الفراغ الأمني في أجزاء من الضفة الغربية وما ينتج عن ذلك من تشكيل جماعات فلسطينية مسلحة جديدة مستعدة لتحدي قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وقوات الجيش الإسرائيلية. وفي الوقت الذي يسعى فيه الجيش الإسرائيلي إلى ملء الفراغ، فإن ذلك السلوك يزيد من إضعاف السلطة الفلسطينية مما يؤدي إلى حلقة مفرغة من العنف وسفك الدماء. كان العام الماضي الأكثر عنفا في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية منذ نهاية الانتفاضة الثانية. ارتفع عدد الاشتباكات المسلحة مع الجيش الإسرائيلي ثلاث مرات على الأقل مقارنة بعام 2021.[1] وبلغ عدد الضحايا الفلسطينيين في الضفة الغربية وحدها 146 شهيدا، وهو أعلى عدد منذ عام 2005.[2] وبلغ عدد القتلى الإسرائيليين 31 قتيلا، وهو أعلى عدد منذ عام 2008.[3] وبلغت حوادث العنف التي ارتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين في العام 2022 وحده 755 حادثة، مقارنة ب 496 حادثا في العام 2021 و358 حادثا في العام 2020.
يمكن أن تتصاعد الأوضاع أكثر إذا أصبح عباس أكثر ضعفا في خضم هذه الدورة أو حتى غادر المشهد. النتيجة الأكثر احتمالا في هذا السيناريو هي زيادة الفوضى في الضفة الغربية التي يمكن أن يتبعها عودة إسرائيلية إلى إعادة احتلال أجزاء أو كل الأراضي المحتلة، كما حدث في عام 2002. لتجنب هذه النتيجة شبه المؤكدة، تحتاج السلطة الفلسطينية إلى استعادة شرعيتها. على الرغم من الاحتمال الضئيل للقيام بذلك في ظل القيادة الفلسطينية الحالية، فإن إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية هو الخطوة العلاجية الأكثر أهمية وإلحاحا التي بدونها قد لا يكون ممكنا إيقاف الديناميات الحالية أو التخفيف من حدتها. أما بالنسبة لإسرائيل، فإن الإجراء الأكثر أهمية هو إعادة حل الدولتين للحياة، وهي خطوة لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية الحالية اتخاذها، مما يعني أن عملا فلسطينيا قويا أو الضغط الخارجي فقط هو الذي يمكن أن يبطئ الانهيار التدريجي الحالي لحل الدولتين.
أربع سمات رئيسية:
بدون إجراء انتخابات فلسطينية وإيقاف الجهود التي تبذلها إسرائيل لتعزيز احتلالها وجعله دائما، من المرجح أن تكون الخطوة التالية في عملية التصعيد هي إعادة احتلال كل أو أجزاء من المناطق الحضرية في الضفة الغربية. وبالنظر إلى تجربة إسرائيل مع إعادة احتلال الضفة الغربية في عام 2002، فإن قرار القيام بذلك في المستقبل القريب قد لا ينظر إليه على أنه محفوف بمخاطر أمنية ذات بال.
لكن الظروف التي قد تنتج عن هذا الاحتلال المتجدد قد تختلف عن تلك التي سادت آنذاك في خضم الانتفاضة الثانية. هناك أربع سمات رئيسية للواقع الحالي تفسر الفرق بين هذا السيناريو وسيناريو عام 2002، عندما أعاد الجيش الإسرائيلي احتلال المناطق الحضرية في الضفة الغربية ثم الخروج منها بدون تغيير جذري كبير في قواعد اللعبة. السمة الأولى تتمثل في أن السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت كانت لا تزال تتمتع بشرعية ودعم كبيرين، وبالتالي كانت قادرة على الحفاظ على قدرتها واستعادة السيطرة بمجرد انسحاب الجيش الإسرائيلي. وعلى النقيض من ذلك، قد تحرم السلطة الفلسطينية الحالية، جزئيا أو كليا، من هذه القدرة، في بعض المناطق على الأقل، وتبعا للظروف السياسية الداخلية آنذاك، مما قد يجبر الجيش الإسرائيلي على البقاء لفترة أطول.
ثانيا، في حين كان الائتلاف الحاكم في إسرائيل في عام 2002 غير مهتم بضم الضفة الغربية بأكملها، أو حتى السيطرة الكاملة عليها، فإن الائتلاف الحالي منفتح على الأقل على فكرة إبقاء جيشه في مكانه أو حتى ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. وبذلك يتم إنشاء نظام فلسطيني إسرائيلي جديد، نظام يحل محل النظام المحتضر، الذي أنشأته عملية أوسلو.
ثالثا، في عام 2002، كان المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة واللجنة الرباعية، المكونة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، لا يزال منخرطا بعمق في الشرق الأوسط وكان على استعداد للتدخل وتقديم "خريطة طريق" لحل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني مبني على حل الدولتين. نصت تلك الخطة على بنود عملية سياسية للخروج من العنف المستعر. في ظل الظروف الحالية، وخاصة بالنظر إلى انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، من غير المرجح أن تلعب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أي دور ملموس. إن الجهود الحالية التي تقودها الولايات المتحدة والأردن ومصر لتسهيل خفض التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي، كما هو الحال في الاجتماعات في العقبة وشرم الشيخ[4]، تبدو متأخرة جدا بحيث لا تؤثر على ديناميات التصعيد الحالية.
رابعا، بينما كان العالم العربي مستعدا في ذلك الوقت للالتقاء بطريقة غير مسبوقة وتقديم مبادرة السلام العربية لإسرائيل، وهي مبادرة سعودية عرضت إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي بشكل دائم وأقرها مؤتمر القمة العربي في بيروت في عام 2002، أصبح العالم العربي الآن أقل اهتماما بالقضية الفلسطينية. وبدلا من ذلك، يركز على التهديد الإقليمي لإيران ويسعى لاحتوائه. لقد حطمت عملية التطبيع العربية مع إسرائيل، المعروفة بالاتفاقات الابراهيمية، مبادرة السلام العربية وتناقضت مع منطقها من خلال عرض السلام على إسرائيل دون إنهاء احتلالها بالضرورة أو السماح بإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وفي حين أن هذه الاتفاقات قد لا تتوسع في ظل الظروف الحالية، فمن غير المرجح أن تكون إسرائيل أو شركاؤها العرب في التطبيع مهتمين بجعل السلام الفلسطيني الإسرائيلي محوريا في جهودهم. إن منتدى النقب الذي يجمع المطبعين مع إسرائيل يسعى لتسهيل التعاون الاقتصادي والأمني ويستبعد الفلسطينيين تماما. وحتى لو دعيت السلطة الفلسطينية للانضمام إلى المنتدى، فإنها ستجد أنه من المستحيل القيام بذلك في غياب التزام باستئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية على أساس مبادرة السلام العربية، وهو شرط سترفضه على الأرجح إسرائيل ودول التطبيع العربية. النتيجة النهائية هي أن السلطة الفلسطينية ستظل عاجزة عن إيجاد الوسائل لاستعادة الدعم السياسي أو المالي العربي.
ومع بدء تصادم هذين التطورين، الفلسطيني والإسرائيلي، الموصوفين أعلاه، فإن جهود الولايات المتحدة، وجهود بقية المجتمع الدولي واللاعبين العرب الإقليميين الرئيسيين، التي تقتصر حاليا على تشجيع خفض التصعيد قد لا يكتب لها النجاح. هذه الجهود قد لا تنجح لأنها عير معنية بمعالجة الديناميات التي ولدت التطورات الجديدة تدريجيا. صحيح أن جميع اللاعبين الدوليين يؤيدون على ما يبدو حل الدولتين الذي يؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب إسرائيل. ولكن لا أحد على استعداد لاتخاذ تدابير فعالة لجعله حقيقة واقعة. وبالتالي، فإن الدعم لهذا الحل يفتقر للمصداقية.
لفهم السبب وراء توقعات الفشل هذه، يحتاج المرء إلى فهم طبيعة الديناميات التي أنتجت التطورين: ما الذي أوصلنا إلى هذه النقطة، والآثار طويلة الأجل.
ولادة إسرائيل الجديدة:
ما يميز إسرائيل الجديدة بالإضافة إلى هيمنة القوى الدينية القومية هو رفض حل الدولتين وأي انخراط مع الفلسطينيين في مفاوضات سلام على أساس هذا الحل. كما أنها تتميز بضم زاحف بحكم الأمر الواقع، وهو ضم يكتسب زخما مدفوعا بسياسات الحكومة الجديدة، والذي قد يتم تسهيله قريبا لو نجحت هذه الحكومة في إضعاف القضاء الإسرائيلي. يمكن للأجندة الدينية لإسرائيل الجديدة أن تقوض وتدمر في نهاية المطاف الوضع في الأماكن المقدسة في القدس. تظهر إسرائيل الجديدة تصميما أكبر على فرض إجراءات عقابية ضد السلطة الفلسطينية بسبب الحملة الدولية التي تشنها الأخيرة ضد إسرائيل. في شباط/فبراير 2023، ضاعفت وزير المالية الاسرائيلي الجديد، رئيس حزب الصهيونية الدينية بتساليل سموتريتش، مبلغ عائدات الجمارك الشهرية الفلسطينية التي تحتجزها عادة، والتي تبلغ الآن 40 مليون دولار أمريكي ليدفعها لضحايا العمليات الفلسطينية، وذلك في خطوة عقابية لجهود السلطة ضد إسرائيل في المحافل الدولية. أعلن وزير المالية آنذاك أنه غير معني باستمرار وجود السلطة الفلسطينية[5]. والنتيجة الحتمية هي أن الضعف الحالي للسلطة الفلسطينية سوف يتسارع.
ساهمت ثلاثة عوامل خارجية في التطور الحالي على مدى ما يقرب من 15 عاما، مما أعطى الجناح اليميني والتطرف القومي الديني في إسرائيل مجالا للنمو والحكم. الأول هو فشل الولايات المتحدة في استخدام نفوذها على حكومة ائتلاف يمين الوسط التي تم إنشاؤها بقيادة نتنياهو في عام 2009، عندما كانت القيادة الفلسطينية لا تزال تتمتع بالشرعية الشعبية، وبالتالي كانت لا تزال قادرة على صنع السلام. ضغطت إدارة أوباما على إسرائيل لتجميد البناء الاستيطاني، لكنها لم تفعل شيئا للضغط على نتنياهو لمواصلة ما يسمى بعملية أنابوليس التي بدأتها إدارة بوش قبل أكثر من عام. في المنافسة بين أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي، كان نتنياهو هو الذي تمكن من إثبات أن إسرائيل لديها على الأقل تكافؤ في العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة وأن إسرائيل، في الواقع، لديها نفوذ كبير على الإدارة الأمريكية.
ثم سرعان ما تبلور في إسرائيل تصور بأنها دولة لا تقهر. أعطت السنوات الأربع التي قضاها دونالد ترامب في منصبه النظام السياسي اليميني والجمهور الإسرائيلي انطباعا بأن دولتهم يمكنها أن تفعل ما تشاء دون اعتبار للقانون الدولي أو المصالح الأكثر حيوية للفلسطينيين. بحلول منتصف عام 2020، تجاوز التأييد بين اليهود الإسرائيليين لضم أجزاء من الضفة الغربية، مثل غور الأردن، النصف، حيث بلغ أكثر من 70٪ بين الناخبين اليمينيين[6]. انخفض تأييد حل الدولتين بين اليهود الإسرائيليين من 51٪ في منتصف عام 2016، قبل تولي ترامب منصبه، إلى 42٪ في آب (أغسطس) 2020، قبيل نهاية ولاية ترامب، انخفاض بلغ 9 نقاط مئوية.[7]
ثم جاءت لحظة الإغراء الأعظم. قبل أن يترك ترامب منصبه، كافأ اللاعبون الإقليميون العرب إسرائيل. مدفوعين بتقديراتهم للتهديدات الإقليمية الإيرانية ومدفوعين بالنجاحات الإسرائيلية والعجز الفلسطيني، قامت هذه الدول بتطبيع العلاقات الأمنية والاقتصادية مع إسرائيل. لماذا إذا ستقدم إسرائيل تنازلات للفلسطينيين إذا كان من الممكن جني ثمار السلام العربي الإسرائيلي دون الحاجة إلى دفع الثمن. ساهم التطبيع العربي في إضعاف إسرائيل العلمانية وتمكين إسرائيل القومية الدينية. بعد عامين من التطبيع العربي، بحلول كانون الأول/ديسمبر 2022، انخفض الدعم اليهودي الإسرائيلي لحل الدولتين إلى الثلث فقط، في انخفاض آخر بمقدار 8 نقاط مئوية في غضون عامين فقط، وبلغت نسبة تأييد هذا الحل 14٪ فقط بين الناخبين اليمينيين. حصلت نسبة تأييد قيام دولة واحدة في كامل مساحة فلسطين التاريخية يتمتع فيها اليهود بحقوق كاملة ويتمتع فيها الفلسطينيون بحقوق جزئية على تأييد أكبر بين اليهود الإسرائيليين من تأييد حل الدولتين (37٪ و34٪ على التوالي)[8].
على الصعيد المحلي، بالإضافة إلى التحول التدريجي إلى اليمين في الحياة السياسية الإسرائيلية، وهي عملية بدأت في عام 1977، ربما كانت المساهمة الأولى والأكثر أهمية في صنع إسرائيل القومية الدينية هي الاتجاه الذي بدأ في عام 2009 وتعزز في عام 2015، حيث تحالفت الجماعات الدينية والدينية القومية المتطرفة في ائتلافات حكومية مع نتنياهو والليكود فقط. وللاستفادة الكاملة من تحقيق ائتلافه للمكاسب، احتاج نتنياهو العلماني إلى استرضاء الهوامش الأكثر تطرفا وإضفاء الشرعية عليها، وبالتالي جعلها مسوغة أو مقبولة من الرأي العام . في عام 2022، بذل نتنياهو جهودا كبيرة لمساعدة الأحزاب المتطرفة الصغيرة على توحيد قواها، وأهمها تلك الممثلة في القائمة الانتخابية للصهيونية الدينية وحلفائها من حزبي عوتسما يهوديت ونوعم، حتى يتمكنوا جميعا من اجتياز العتبة الانتخابية. ثم جاءت مشاكل نتنياهو القانونية الشخصية حيث أجبرته محاكمته بالفساد في أواخر عام 2022 على تشكيل ائتلاف مع أولئك الذين يمكنهم السماح له بإعادة هيكلة القضاء الإسرائيلي وإضعاف استقلاليته.
في ظل هذه التطورات، من نافلة القول إنه لا يمكن توقع أن تتخذ إسرائيل القومية الدينية الحالية سوى تدابير إضافية من شأنها أن تسرع بزوال حل الدولتين بدلا من إنقاذه. ولإنقاذ هذا الحل، سيتعين على القيادة الفلسطينية أن تستعد لتبني استراتيجية للمواجهة يمكنها أن تؤدي لانهيار السلطة الفلسطينية، وهي خطوة من المرجح أن تصر القيادة الحالية على تجنبها. في غياب ذلك، يمكن لقيادة السلطة الفلسطينية أن تسعى للحصول على دعم عربي ودولي للخطوات التي قد تجعل من الصعب على إسرائيل القومية الدينية أن تدمر تماما ما تبقى من حل الدولتين. بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يمكنها تنسيق سياستها هذه مع الدول العربية المعنية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، مثل المملكة العربية السعودية وغيرها. يمكن أن يكون التطبيع العربي القادم مشروطا بمقايضة ملموسة، مثل انسحاب إسرائيل من معظم المنطقة (ج)، وزيادة ولاية السلطة الفلسطينية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وفتح الأراضي المتبقية من المنطقة (ج) للأنشطة الاقتصادية الفلسطينية، وبناء ممر تسيطر عليه السلطة الفلسطينية يربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة. بالتأكيد لن يكون أي من هذه الإجراءات مقبولا لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية دون موقف عربي ودولي قوي وموحد، وهو أمر مستبعد للغاية في ظل الظروف الحالية وغياب التركيز على القضية الفلسطينية-الإسرائيلية.
الإخفاقات الفلسطينية:
إن ما يميز التطورات الفلسطينية الأخيرة بالإضافة إلى العجز المتزايد عن الحفاظ على احتكار القوة المسلحة هو عدم القدرة على تنظيم الانتخابات أو إعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي غياب عملية سلام، أصبحت العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية عدائية. كان المكان الرئيسي لمواجهة السلطة الفلسطينية مع إسرائيل هو المؤسسات الدولية. لكن هذه المواجهة مكلفة، ويرجع ذلك في الغالب إلى حقيقة أنها غير متماثلة. فالسلطة الفلسطينية لا تملك نفوذا كبيرا على إسرائيل، في حين يمكن لإسرائيل أن تفرض عليها تكاليف عقابية مالية وغير مالية من خلال حرمان الفلسطينيين من الموارد والفرص الاقتصادية.
ما الذي جعل السلطة الفلسطينية ضعيفة لدرجة أنها لا تستطيع ضمان احتكار القوة؟ الجواب يكمن في فقدانها للشرعية الانتخابية وغير الانتخابية. انتهت ولاية الرئيس في عام 2010، فحكم بعد ذلك لمدة 13 عاما دون تفويض شعبي. طوال هذه السنوات منع رئيس السلطة الفلسطينية إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. ونتيجة لذلك، انخفضت ثقة الجمهور بحكومة السلطة الفلسطينية من 68٪ عند انتخابها لأول مرة في عام 2006 إلى 27٪ بحلول نهاية عام 2021. نسبة الاعتقاد بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية بلغت 86٪ خلال معظم العقد الماضي. وخلال الفترة نفسها، طالبت الغالبية العظمى من الفلسطينيين باستقالة الرئيس عباس. تبلغ نسبة المطالبة باستقالته اليوم 80٪[9]. وينظر الفلسطينيون الآن إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها عبئا على الشعب الفلسطيني. الأغلبية ترى في استمرارها خدمة لمصلحة إسرائيل وترى في تفككها أو انهيارها خدمة لمصلحة الشعب الفلسطيني[10].
جاء فشل السلطة الفلسطينية في الأساس بسبب سياساتها الداخلية. في العقد الماضي، اتخذت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية عدة تدابير قوضت بشدة الحكم الرشيد وألغت أي مساءلة ذات مغزى في النظام السياسي. وقد تضررت أربع مجالات بشدة: الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، واستقلال وتعددية المجتمع المدني ومنظماته، ووسائل الإعلام وحرية التعبير. بدون انتخابات عامة منذ عام 2006، كان الضرر الذي لحق بهذه المجالات الأربعة مدمرا: فقد تم حل البرلمان، والتضحية بسيادة القانون، وإضعاف القضاء وتضرر استقلاله، وتقليص الحريات الإعلامية إلى حد كبير، وتقليص مساحة عمل المجتمع المدني حيث فقدت منظماته الكثير من استقلالها عن الحكومة.
وتجدر الإشارة إلى أن العوامل الخارجية، كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل، حاسمة أيضا. وباهتمام ضئيل أو معدوم من المجتمع الدولي، أصبحت السلطة الفلسطينية على مدى العقد الماضي، ولا سيما منذ الربيع العربي، أكثر جرأة في تجاهل قانونها الأساسي وسيادة القانون بينما تسعى إلى تعزيز سلطة الرئاسة والسلطة التنفيذية ككل وإضعاف جميع أطراف المعارضة، بما في ذلك معارضة المجتمع المدني. وخوفا من صعود الاسلاميين والإرهاب والحروب الأهلية، بدا المجتمع الدولي أقل اهتماما بالحكم الرشيد الفلسطيني. في مرحلة ما بعد الربيع العربي، أخذ التركيز على الاستقرار يحل محل الأجندة التقليدية للديمقراطية والحكم الرشيد.
ومع ذلك، فإن الاستبداد الفلسطيني نابع من الداخل. في وقت مبكر من عام 2007، عندما سيطرت حماس بعنف على قطاع غزة، زرعت البذور المبكرة للاستبداد في السياسة الفلسطينية. وقد أدى ذلك بالسلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس عباس إلى اتخاذ تدابير فورية تجاهلت المتطلبات الدستورية وسيادة القانون. وجاء التنافس الداخلي داخل فتح بعد ذلك، مما أدى إلى صراع على السلطة كان من السهل فيه إلحاق المزيد من الضرر بسيادة القانون وحرية التعبير والتعددية في المجتمع المدني. لا يمكن تفسير السهولة المذهلة في حصول ذلك إلا بالطبيعة غير الديمقراطية للنخبة الفلسطينية الحاكمة. عدد قليل فقط من أعضاء النخبة الوطنية الراهنة هم ديمقراطيون حقا ويبدو أن النخبة الإسلامية أسوء من ذلك. وبدون الكوابح التي توجد عادة بين الديمقراطيين، وجدت البيروقراطية الفلسطينية العليا في السلطة التنفيذية نفسها خالية من أي رقابة أو مساءلة ذات مغزى. ومن دون قيود على قدرتها على الحكم كما تراه مناسبا، وجد أعضاء قيادة السلطة الفلسطينية، وأهمهم الرئيس ووزرائه، أنه من الأسهل أن يحكموا دون أن يزعجهم البرلمان أو المحاكم أو المجتمع المدني أو وسائل الإعلام.
من شبه المؤكد أن السلطة الفلسطينية لن تحسم أمرها تجاه القيام بخطوة قوية لمواجهة إسرائيل الجديدة، كبلورة إجماع وطني على حل الدولة الواحدة، أو قيادة حملة مقاومة شعبية سلمية واسعة النطاق، أو تبني استراتيجية دفاع مسلح في مناطق سيطرتها. وإذا كان إجراء الانتخابات غير وارد في ظل الظروف الحالية، فينبغي اتخاذ خطوات لإبطاء أو إلغاء التدابير الاستبدادية التي اتخذتها السلطة الفلسطينية خلال العقد الماضي. بدعم عربي ودولي، يمكن بذل الجهود لتشكيل حكومة وحدة وطنية مع حماس وجماعات المعارضة الأخرى التي يمكنها أن تعيد توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة. وباستثناء إجراء الانتخابات، قد يعهد إلى الحكومة الجديدة بأربع مهام. يمكنها أولا اعتماد أجندة تشريعية تسعى إلى تعديل المراسيم الرئاسية القائمة لجعلها متسقة مع القانون الأساسي الفلسطيني. ويمكن أن تكون استعادة دور القضاء المستقل هو الخطوة الحيوية الثانية لحكومة الوحدة الوطنية. ثالثا، يمكن لهذه الحكومة أن تزيل القيود المنهكة الحالية المفروضة على المجتمع المدني والصحافة مما قد يسمح لهما بالازدهار واستعادة القوة والحيوية التي فقداها خلال العقد الماضي. أخيرا، يمكن لحكومة الوحدة الوطنية أن تعيد الاحترام للحريات وحقوق الانسان وتضع حدا لتجاوزات الأجهزة الأمنية وتخضعها للمساءلة. وفي حين أن هذه التدابير قد لا تكون كافية لاستعادة الشرعية الكاملة للسلطة الفلسطينية وقيادتها، إلا أنها يمكن أن تساعد على استعادة بعض الثقة المفقودة في المؤسسات العامة والسماح للسلطة الفلسطينية باستعادة زمام المبادرة وبالتالي منحها الشجاعة لاتخاذ قرارات صعبة.
إلى أين؟
قد تؤدي الديناميات المذكورة أعلاه بالفعل لبدء حقبة جديدة في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. مع اقتراب آفاق السلام القائم على حل الدولتين من نهايتها، يدخل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الآن مرحلة جديدة، مرحلة قد لا يكون فيها تقسيم الأرض خيارا متاحا، وبذلك تأتي نهاية الدبلوماسية والمفاوضات، ويتحول اهتمام الجهات الفاعلة الآن إلى وسائل أخرى لحل الصراع. بالنسبة للإسرائيليين، يعني ذلك تعزيز بناء المستوطنات والخطوات لتغيير الوضع الراهن فيما يتعلق بالسيطرة والسيادة على الأرض والأماكن المقدسة من خلال إجراءات قانونية داخلية. أما بالنسبة للفلسطينيين فإن ذلك قد يعني العودة لاستخدام القوة.
سيجد الفلسطينيون والمجتمع الدولي صعوبة في الاعتراف بهذه الحقيقة. ومع ذلك، فهم ليسوا أغبياء، لكن ليس لديهم بديل لحل الدولتين قابل للتطبيق. كما أن السلطة الفلسطينية مهتمة تماما بالبقاء واستمرار دعم المانحين. لهذين السببين ترتبط هذه السلطة بشكل وثيق بإسرائيل، وبالتالي لا يمكنها تحديها بشكل مباشر. وبدلا من اتخاذ تدابير ملموسة فعالة من جانبها لتغيير الظروف على أرض الواقع والتصدي للتدابير العقابية لإسرائيل الجديدة، تكتفي بدعوة المجتمع الدولي إلى القيام بذلك. وبالتالي، فإنها تواجه صعوبة بالغة في توجيه بوصلتها نظرا لتضارب مصالحها في وقت وصلت فيه إلى نقطة متدنية تاريخيا من حيث افتقارها إلى الشرعية والمصداقية في نظر جمهورها. ولكن مع ازدياد ضعفها، فقد تزداد احتمالات نشوب صراع عنيف مع إسرائيل.
لا يمكن للولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي إلا أن يدركوا أن العملية الجارية الآن لا يمكن أن تنتهي إلا بزوال حل الدولتين. ومع ذلك، فهم غير مستعدين لاتخاذ التدابير الفعالة الوحيدة لإجبار إسرائيل والسلطة الفلسطينية على الابتعاد عن طريق الصدام: إجراء الانتخابات للفلسطينيين، والالتزام، قولا وفعلا، بحل الدولتين لإسرائيل.