بقلم: نصار إبراهيم
"الخنفشاري" للروائي الفلسطيني نافذ الرفاعي- صدرت عن دار الجندي وتقع في 192 صفحة.
" إنها محاولة لكتابة جزء من الحكاية الفلسطينية والتي تعيش وترزح تحت الاحتلال، فيها رائحة المقاومة وعهن الاستسلام، رائحة الثورة وطعم الارتزاق، رائحة الأحلام العربية الكبرى ذات المذاق الإنساني، وما يسحبها نحو القنوط والإحباط والتمركز حول الذات" (ص 27).
وحين "بدأ الكاتب يراجع تسلسل أحداث روايته، وجد أن ترتيبها جاء "عشوائيا" ليس في سياق الرواية التقليدية، وزاد إعجابه في فوضاها... ورنت في أذنيه مقولة " فوضاي أجمل من رتابتي المؤنقة". (ص 48).
بهذه النقاط الارتكازية يحدد نافذ الرفاعي ويلقي الضوء على الخيوط المفتاحية للمساعدة على التعامل مع سياقات تجربته الروائية والسردية في الخنفشاري...
رواية الخنفشاري من حيث الأسلوب والبنية هي نص روائي تجريبي بامتياز... نص قلق ومتحرك... وأحيانا مرتبك... نص يتحرك في ذاته ولذاته ولكن ضمن محددات الواقع الاجتماهي المحيط... ليس نصا خياليا... بل نص واقعي تماما، قد يتكئ في بعض الأحيان على الخيال.. لكنه وهو يقوم بذلك فإنه يبقى محكوما بشروط الواقع الموضوعية..
هذا يعني أن متابعة ووعي حركة هذا النص الروائي تستدعي بالضرورة الذهاب إلى تلك المساحات حيث يتقاطع الكاتب مع النص مع الواقع... أي المساحات التي تقع عند الحدود والتخوم... وبذل الجهد في محاولة لكشف ما يحدث ويتفاعل في تلك المساحات مما يعطي للنص أبعادا جديدة...
القلق والحركة والتمرد التي تعبر عنها شخصية الخنفشاري بمرارة تعيد التذكير بصورة ما بمرارة اللاز للطاهر وطار... أي التناقض بين الأحلام والقيم والأمنيات التي تحملها أي حركة ثورية... وبؤس الواقع الذي وصلت إليه.. بحيث تصبح حقلا لاغتيال الأمنيات... فتدفع بأبطالها نحو خيارات قاسية... كنوع من رد فعل على العجز أو الانكسار...
في الخنفشاري يقوم نافذ الرفاعي بمحاولة لوعي ما يجري في الواقع الفلسطيني... وهنا يصبح الكاتب نفسه بصورة ما – بما هو إبن التجربة السياسية الفلسطينية –الخنفشاري ذاته، فيذهب لمواجهة الأسئلة والانكسارات والارتباك والقلق... لقد انعكست هذه الحالة العميقة في بنية النص على شكل حركة متكسرة... وانتقالات مفاجئة... وكأنها تتحرك في الواقع ذاته.. حيث الأزمة والانحباس في الواقع السياسي الفلسطيني... يلقي بأثقاله على نبض الرواية بإلحاح..
ما يشبه الثورة المغدورة.. والأحلام المهانة والتضحيات كلها محركات تختفي في قبور الشهداء... وكأن اللحظة الفلسطينية الراهنة تكسر المرحلة السابقة.. حين كانت الثورة واضحة وحاسمة في خياراتها... ولهذا يقول "إن الثورة يصنعها العبقري ووقودها المغامر ويقطف ثمارها الجبناء، والذين أمضوا حياتهم في السجون والنضال، لم يجدوا وقتا للدراسة وأصحاب الشهادات العليا هم أبناء الأكابر.." (ص 13).
إذن هو نص يحاول أن يعالج تلك التناقضات العميقة ما بين ثورة شعب تقدم التضحيات منذ قرن من الزمان... ثم تجد نفسها في لحظة ما تخوض في عملية سياسية ملتبسة تناقض الأحلام والأمنيات والتضحيات... ففي لحظة يتجلى الفدائي الفلسطيني كنوع من خرافة... بما يثير السؤال هل في الحقيقة أن الفدائي هو الخرافة أم الواقع الناشئ هو الخرافة!؟ المقصود واقع الركود العربي والهزيمة والخذلان الفلسطيني ... بمعنى أنهذا الواقع هو الأمر غير الطبيعي... بينما رد الفعل الفلسطيني المقاوم / المعادل للفدائي هو الأمر الطبيعي تماما.. فما هو غير طبيعي وغير منطقي أن يكون الاحتلال طبيعيا... وفي مواجهة ذلك يكون الأمر الطبيعي حتى النهاية هو المقاومة وبلا حدود.... غير الطبيعي الاستسلام والقبول بالهزيمة كقدر ... هذا هو الخيالي في الواقع الفلسطيني الراهن.
لقد عبر نافذ عن هذه الإشكالية في مقاربة مفهوم أو ظاهرة الثوار الكتبة... حين تحولت الثورة من فعل مقاوم إلى مجرد "كلام" وحقل لتحقيق المصالح الذاتية "لو عملوا في شركات البترول، لما حازوا هذه الثروة" (ص 180). هنا نلاحظ كيف جرت عملية عميقة من خلال التعويض عن البندقية والمقاومة عند هؤلاء بالكلمة...... فالكلمة التي لا تحميها البندقية ستذهب لمساومات خطيرة تودي بها وبصاحبها... هكذا يسقط الكثير ممن يعتقد أن الكتابة وحدها ستحرر وطنا.. وحين يضغط الواقع أكثر.. ينحدر "الثوار الكتبة" نحو مساومات وتبريرات تضرب في عمق فكرة الثورة... وتصبح الثورة عند هؤلاء مجرد مشروع للإثراء.
هذا التناقض الحاصل في الواقع الفلسطيني هو الخيط الناظم لكل شخصيات رواية الخنفشاري... التناقض ما بين الأحلام الكبرى والواقع المحبط ، التناقض بين المطالب والحقوق الوطنية الأساسية للشعب الفلسطيني وما وصلت إليه المساومات السياسية من تردي وهبوط...
في سياق هذه التحولات والتفاعلات... نلمح محاولة لكشف بعض الأسباب... ومنها الأبعاد الطبقية في الحركة السياسية الفلسطينية... فحين يراهن والد الفتاة الارستقراطية بنصف مليون دينار على أن الفتاة لن تقبل عرض الزواج... (ص 183) فإن هذا التحدي يستند لقراءة اجتماعية.. وفي ذلك دلالة على أحد أسباب ومحركات الهبوط السياسي الفلسطيني... فالخنفشاري ذهب لطلب يد الفتاة مدفوعا بوهج الفكرة... بقلب الثائر المتمرد... فيما الأمر الذي يقرر الزواج هو واقع علاقات القوة الطبقية والاجتماعية... وبالتالي ما لم يجر هز تلك البنى وتحديها بالقوة... فإن النهاية ستكون مأساوية...
بهذا المعنى نفهم إشكالية نص الواقع الفلسطيني... حيث التناقض بين القوة القائمة والفكرة والأحلام والطموحات الكبرى في التحرر... وبالتالي لا يمكن تحقيق أهداف الثورة والشعب بدون تغيير موازين القوى في الواقع المشخص والملموس .. وغير ذلك ستتحول اللعبة السياسية إلى عملية استجداء لا أكثر. "أريد أن أجرد العالم الرأسمالي من كل خزائنه، لكن أولاد الكلب ابتدعوا خزائن البنوك والفيزا كارد (....) هؤلاء هم اللصوص الذين يسرقون ما بداخلها وتبقى فارغة، والناس تعتقد أنها مليئة... إنها النفس نسرق ما بداخلها، أو يُسرق ما بداخلها، لتبقة مشدوهة ضائعة فارغة من الهدف المرتجى والحلم الموعود" (ص 106).
بهذا المعنى يقول النص " نفقد أشياء كثيرة حين ننال عشر الحرية .... ويفقد الثوري ألقه" فأن نكتفي بعشر حرية قد يبدو للوهلة الأولى وكأن ذلك إنجازا... غير أن الوجه الآخر المؤلم والقاسي لهذه المساومة هو أننا نفقد في ذات اللحظة تسعة أعشار حريتنا... ومعها تسقط أحلام شاسعة بل وتتغير طبيعة الناس والواقع.. كما تتغير طبيعة الثوري ذاته... مما يثير سؤالا مباشرا: هل هو ذاته؟
بشكل عام بقي إيقاع النص يتحرك في تلك المساحات القلقة ويطرح الأسئلة الحارقة... هو لا يقدم حلولا بل يثير عاصفة من الشك... أو لنقل نوعا من محاكمة الواقع الذي وصل إلى ما وصل إليه... في سياق هذه العملية... يجاهد النص عبر طرح الأسئلة وإطلاق فعالية النقد لكل أبعاد الواقع المعاش بمساحات المرتبكة من أجل كشف معضلات الواقع كشرط لمغادرة الأزمة... فيتحدث عن المثقف المديني ومثقف الريف إن جاز التعبير.. كما يحاول أن يكشف إشكالية الأغتراب الثقافي ... والثقافة السطحية والضحلة: " أهي عقدة العربي المهاجر إلى الغرب يعيش شخصية مزدوجة، يبني بيتا فيه من الطراز العربي ويضع الطراز الأوروبي، يتزوج امرأة بسيطة لأنه يبحث عن فروض الطاعة، ويتشدق بالحريات والديمقراطية، لا يستطيع التخلص من شخصية سي السيد التي وصفها بدقة نجيب محفوظ" (ص 88).
ولكن في النهاية وبعد كل هذه الالتباسات.. والآلام... والأسئلة.. يعود نافذ إلى نقطة البداية...ويطرح السؤال البديهي للغاية: "من يعيد للثورة بريقها" (ص 188)... وما هي الشروط لكي تستعيد بريقها؟
وفي غمرة التفاعل ما بين ثلاثية الكاتب والنص والواقع تقف الرواية عند معضلة مفصلية:
"تريدون الخنفشاري أن يعود: هل تستطيعون إعادتي إلى ما كنت عليه، إلى روحي وقلقي وثورتي وتوبتي ..؟ من هو الخنفشاري ولماذا لا يستطيع أن يعود؟ وما هي شروط العودة وهل يجب أن يعود؟ أم أن يتجدد أم أن يولد خنفشاري يلبي شروط الثورة الراهنة ويتخطى البؤس المتراكم (ص 190).
في سياقات الواقع وما يحمله من أسئلة وشك وارتباك وبنية مختلة... لا يبدو في الأفق حلا ناجزا.. ولهذا يقول: "سأعود ولكن باهتا، ظلا للماضي.. أعود مجرد ركام أحلام.... كيف أعود وسيدتي المقدسية في قلبي وأحلام المشردين.... أما كسروا الوهم العالق في إرادتي بالنصر.... وهل أعود رافعا راية النصر ؟ أم راية الاستسلام؟".
هذا السؤال يعكس معضلة الواقع الفلسطيني المحورية التي تتحرك ما بين مستويين: مستوى الرغبة بالعودة لمعنى الثورة الحقيقي... ومستوى الواقع القاهر بمعادلاته المختلفة... لقد تغيرت البنى ااسياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية.. وجرت في النهر مياه كثيرة... وبالتالي باتت العودة ضمن ذات الشروط وذات الوعي السابقين مستحيلة... لهذا لن يعود الخنفشاري.. لقد أخذ فرصته فأوصلته لما وصل إليه... انتهى.. هو الآن مجرد تجربة فيها بالتأكيد دروس قيمة، ولكن حتى تتخطى الحركة الفلسطينية السياسية والاجتماعية اللحظة نحو أفق جديد.. عليها أن تبحث ضمن شروط الواقع الجديد عن شروط الثورة من جديد...
حينها سيولد "خنفشاري" آخر يختلف جذريا عن الخنفشاري السابق.. قد يحن إليه... قد يحترمه... وقد يستفيد من تجربته... لكن ليس مطلوبا منه أن يكون نسخة عنه... لأن الزمان والعلاقات والوعي الذي ولد تلك التجربة تغير بصورة درامية... وهو ما يستدعي ثورة جديدة تشكل استمرارا لتجارب الماضي من جهة وتقطع معها بصورة حاسمة من جهة أخرى... ثورة لها شروطها وسماتها وقواها الاجتماعية التي ستحملها على أكتافها وتدفع استحقاقاتها.
في النهاية.. يقدم الكاتب نافذ الرفاعي في رواية الخنفشاري نصا مشغولا بجدل الاجتماعي والسياسي والسلوكي والنفسي في الحالة الفلسطينية المعاشة... وقد نجح أكثر في إثارة الأسئلة أكثر مما أعطى الإجابات... بل ليس مطلوبا منه أن يعطي الإجابات... يكفيه تحريك المياه.. لقد مارس نافذ نوعا من "العبث" الأدبي إن جاز التعبير... بقلق وتوتر حتى النهاية... فبدت الرواية في سردياتها وشخصياتها وكأنها حرة من أي قالب سردي... حواراتها مفتوحة... وأسئلتها مفتوحة... وقلقها مفتوح... وفرضيات المستقبل أيضا مفتوحة... لقد دفع نافذ بأفكاره لميدان الواقع وتعقيداته وكأنه يقول: إن كان بمقدور الخنفشاري أن يفرض نفسه وأن ينتزع لذاته مساحة فليبرهن على ذلك... لكنه لن يكون ذات الخنفشاري السابق... قد يحمل أحلامه وأمنياته... ولكنه مطالب بصياغة شروط وضرورات تحقيق تلك الأحلام والطموحات بناء على تناقضلات ومحددات وبنى الواقع الراهن.
رواية "الخنفشاري" نص أدبي سياسي اجتماعي... يموج بحركة داخلية تشي بغليان... وتؤشر نحو التباسات الواقع والتباسات الشخصية السياسية الفلسطينية وترددها أمام واقع يتحرك وكأنه خارج نطاق إرادتها وإرادتنا.