الكاتب: تحسين يقين
الصابون النابلسي، والكنافة النابلسية، وإبراهيم وفدوى طوقان، وقصور عبد الهادي وطور سينين، تلك بعض مفاتيح المدينة الأقدم في العالم، والتي لم تسبقها في المعمورة إلا أريحا.
ما إن تطل داخل البلدة القديمة، حتى تلقاك نسائم باردة، مهما كان الجو حارا في الخارج، ليبدأ تساؤلك الأول، حول تبريد البلدة القديمة التي نلوذ بها الآن في هذا اليوم الحار.
تبدأ البلدة القديمة بالترحيب بك: "تفضل، أهلا وسهلا" على لسان تجار المدينة، في واحدة من أجمل تقاليد نابلس في الترحيب بالزوار والمتسوقين.
تفتح نابلس القديمة شهية الناس هنا، بما تقدمه من مأكولات متقنة الصنع، فلا يقف الأمر عند الكنافة، فهنا تجد أجمل طعوم منتوجات اللبن والجبنة والعسل، والمخللات، والطحينية والحلاوة.
تفتح لك المدينة أبوابها الحسية، تداعب الحواس الخمس، ثم لتطل عليك أبواب المساجد الجميلة داخل السوق، ليكتمل الجمال، فتجد نفسك أسيرها بحب واختيار. تأخذنا خطواتنا الى كل مكان، في هذا الفضاء الواسع، الذي يكاد لا ينتهي، حيث تتفرع الأسواق والزواريب. تدخل من طريق تقودك الى طرق، ولا تشعر أبدا بقلق حول مكانك، فيكفي أن تسأل أي نابلسي هنا، ليقدم لك خارطة شفوية، لتتساءل، كيف أتقن معرفة كل هذه الطرق المتشابكة.
والنابلسي وحده هو صاحب السرّ، أو لعلها المدينة التي لا تسلم أسرارها الا لعشاقها، لكن الجميل في هذا كله هو الشعور بالأريحية والحميمية، لما يبادلك به أهلها من احترام وكرم ضيافة.
ويصعب على المتجول في هذا الفضاء المديني القديم، المرور مسرعا، حيث يجد نفسه أمام إغراءات الطعوم، والشم، والتأمل في الجوانب المعمارية، للمحلات والبيوت، فتكاد تشعر بسحر التاريخ فعلا، حين تعرف أن الكثير من دكاكين السوق لم تتوقف عن ممارسة التجارة عبر ثمانية قرون، إن لم يكن أكثر من ذلك، حيث أن هوية المعمار هنا هو ما بين الأيوبي والمملوكي، والعثماني (التركي).
أقف هنا أنظر متخيلا كم من الناس مروا هنا؟ وكم من الأزياء والأذواق والألوان والأطعمة والأشربة؟ لقد بقي المكان هنا عامرا، كأبهى ما يون، وهو ما أكسب المكان وأهله تلك العراقة العميقة.
"تقضل أهلا وسهلا"، عبارة موسيقية تتكرر هنا، فتشعر الزائر بمدى الترحيب من جهة، ومدى عراقة البائع النابلسي، الذي شرب لغة التواصل أبدا عن جد، لربما تلبي فتفطر عند "عجعج"، صاحب عجة البيض المشهورة، والتي تؤكل بوجود شراب الرايب. وهنا في المدينة الأكثر عراقة، تستطيع تناول ثلاث وجبات مشبعات بأقل المال، بل و"التحلاية" بالكنافة الأكثر جودة، هنا عاصمة الكنافة في العالم. ولن يثقلك ماليا الجلوس على المقهى وطلب نارجيلة تمباك أو معسّل. إنها مدينة الفقير كما توصف، ففيها تستطيع العيش بأقل دخل.
في المقهى أقرأ في الصحيفة، عن تجربة اللجنة العامة لرعاية شؤون العرب النازحين في فلسطين، والتي انطلقت من مدينة نابلس، من خلال خبر عن محاضرة للمؤرخ إيلان بابيه، ضمن ندوة "مفاهيم الصمود في رحلة النزوح/ اللجوء الفلسطيني"، والذي اعتمد على أرشيف مكتبة بلدية نابلس، بالإضافة إلى روايات شفوية، استقبال اللاجئين الى نابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية على مدار عام ونصف منذ ربيع عام 1948 حتى تأسيس وكالة الغوث 1951، من خلال مبادرة رئيس بلدية نابلس سليمان طوقان، الذي أنشاء مع السيد موسى ناصر لجنة لتقديم الموارد الغذائية والدواء والمال لمجتمع "ما كان ليبقى على قيد الحياة لولا ذلك".
حين أخبرت السيد سعيد كنعان أحد شخصيات نابلس (قبل رحيله)، عن هذه المبادرة، ذكر أنه ما زال يتذكرها حيث كان طفلا، وحدثني عن إفطار العائلة الرمضاني الذي وهبه والده لأسر اللاجئين في أحد المساءات.
أمر بطرف حارة الياسمينة، فأتذكر المسلسل الرمضاني الجديد، وحين أسال "النوابلسة" هنا، يذكرون لي أنه تم تصوير المشاهد في أكثر منن مكان، في البلدة القديمة وخارجها.
أعلم أن نابلس كانت إحدى حواضر النهضة، بما فيها من مدارس عليا ومعاهد، ومكتبات، وعلماء، لكن لم أكن أعرف أن المدينة عرفت السينما في مرحلة مبكرة من القرن العشرين، حيث كان مقرها مكتبة بلدية نابلس.
هنا برج الساعة الذي بني بمناسبة اليوبيل الفضي للسلطان عبد الحميد، والذي تم ترميمه من خلال مؤسسة التعاون التركي-تيكا. نقرأ أبيات الشعر الأربعة مدحا للسلطان. لقد تم نحتها على حجر التاريخ، أتأمل جمالية البرج وأكتشف أنه ذو بلكونين بديعين.
نمر أمام المصابن، ونتذكر تاريخا قديما، لكن نابلس الوطنية، دفعت ثمن موقفها، فكانت هدفا للاحتلال، حيث طال محاصرتها، فدفعت ثمن البطولة من الثلاثينيات وليس من الآن فقط، فقد عقدت فيها المؤتمرات المناهضة للاستعمار منذ العشرينيات قبل قرن.
في التجوال في سوق البلدة القديمة، يلفت نظرنا محدودية أعداد المتسوقين، ويبدو أن مطاردة الاحتلال لشبان "عرين الأسود"، قد أثّر على الحركة التجارية هنا. ومعروف أن سلطات الاحتلال حاصرت نابلس في الاجتياحات التي تكررت في الانتفاضة الثانية، ولم تسلم المباني التاريخية من قصف الطائرات الإسرائيلية.
أقف أمام مصبنة دار طوقان، فأتخيل الشاعر إبراهيم طوقان يردد:
كَفْكِفْ دموعَكَ ليس ينفعك البكاء ولا العويل
وانهضْ ولا تشكُ الزمانَ فما شكا إلاَّ الكسول
واسلكُ بهمَّتِكَ السَّبيلَ ولا تقلْ كيف السَّبيلُ
ويبد أن هذا هو لسان حال هؤلاء الباعة والتجار، الذين أخبروني بأنهم يكتفون اليوم بما يكفي لسد حاجات بيوتهم.
ونحن نودع المدينة شرقا، قبل منطقة حوارة المنكوبة بجرائم المستوطنين، نفتقد مبنى المقاطعة القديم، الذي تم بناؤه منذ العهد التركي في أواخر القرن التاسع عشر، حيث مول أهل المدينة هذا البناء، لتشجيع خروج العسكر من وسط الـمدينة. لقد توسعت المدينة حتى أصبح المبنى جزءا من المدينة، حيث تشجعت الأسر بالبناء خارج البلدة القديمة.
لم يكن يتخيل النوابلسة الأجداد، أن المكان سيصير سجنا لأحفادهم بعد هزيمة عام 1967، مدى أكثر من 35 عاماً، بحيث لـم يبق أي معتقل خلال هذه الفترة إلا ومر به. لقد تسلمته السلطة الوطنية لست سنوات فقط، لتمسح معظمه طائرات الاحتلال في أيار 2001، ثم لتزيل ما تبقى منه جرافات الاحتلال عام 2006.
يظل إبراهيم طوقان متأملا يقول:
ما ضَلَّ ذو أملٍ سَعى يوماً وحكمتهُ الدَّليلُ
كلاَّ ولا خاب امرؤٌ يوماً ومقصْدهُ نبيلُ
لقد اختار عشاق الحرية دروبهم، كيف لا وهم ينتسبون لكل هذه العراقة، التي يصعب على الطائرات والجرافات اقتلاعها.
[email protected]