بقلم: د. صبري صيدم
ما أكتبه لا يعني انتقاصاً من أهمية التكنولوجيا في حياتنا اليومية، ولا تقليلاً من دورها الثمين في خدمة البشرية وتطوير حياتها وتحقيقرفعتها وإسناد تنميتها وتعزيز إبداعاتها. لكنْ كما لكل شيء في حياتنا وجهان مختلفان، فإن للتكنولوجيا الحديثة وجهين مختلفين أيضاً،أحدهما سلبي والثاني إيجابي.
وعليه فإن ظهور المنحى السلبي عبر إساءة استخدام التكنولوجيا وتوظيفها للافتراء والتضليل على سبيل المثال لا الحصر، ليس بالأمرالغريب، بحيث تشتمل أغراض الإساءة على مناحٍ وطرق عدة.
لذا وأمام تصاعد وتيرة الاعتماد على التقنيات المختلفة كل يوم، وبغرض الاستعاضة عن ما اعتدنا عليه من أمور تقليدية، تعمل بعض الجهاتوعلى مدار الساعة، على توظيف الذكاء الاصطناعي وتقنيات مختلفة لبث الشائعات وخلط الأوراق وصناعة الكذب وفبركة الافتراء، وذلكلأغراض وأسباب عدة.
ولعل شكوى مشاهير الغناء مؤخراً من مساعي القراصنة إلى تقليد أصواتهم بتطابق يصل إلى 100%، إنما تذكرنا بتعاظم الدور السلبيفي هذا المضمار، وهو ما يسمح بدوره بإسقاط أغنياتهم المحبوبة، وأغنيات جديدة أخرى تحمل أصواتهم، على وجوه وشفاه أشخاص آخرينبحيث يستبدل الشخص المشهور بشخص مغمور.
هذا التطور وغيره من إمكانيات تحوير الصورة، والخطوط والمواقع والأحداث، إنما بات يدق ناقوس الخطر في مسار العلاقات البشريةمستقبلاً، خاصة مع تنامي التأثير الواضح للإعلام الاجتماعي، الذي بات المسيّر الأول لمزاج الناس ومواقفها، والمؤثر الأول في ترسيخصناعة الانطباع العام أو الفردي.
ومع كثافة تداول الموضوعات والأخبار فإنها ستتحول أكثر فأكثر إلى مسلمات وبديهيات حتى إن كانت مفبركة ومصطنعة ومضللة ومخترقة،وعليه فإن «تكنولوجيا الافتراء» ستشهد ازدهاراً أكبر في المستقبل القريب، خاصة في خضم تعاظم الأحقاد البشرية وتصاعد الحروبوالمعارك، وتزايد تناقضات المصالح.. وبهذا ستجد وسائل الاستخبارات العالمية على سبيل المثال لا الحصر، وحسب إمكاناتها، مساحة أكبرلصناعة المزاج العام وتأجيج الصراعات وتعظيم الخلافات إحكاماً منها للسيطرة، وتعزيزاً من خلالها لإدارة الخلافات والشقاق بصورة تخدموتحمي مصالحها.
وفي هذا الإطار، سنجد جيلاً جاهزاً لتصديق الروايات المصممة لاغتيال السمعة الفردية والجماعية والحزبية والدينية والاجتماعية، خاصةفي حال توفرت مسبقاً بذرة الاختلاف بالرأي أو التباين في المواقف.
ولهذا فإن تكنولوجيا الافتراء ستعتمد على القدرات التقنية للأفراد والمؤسسات والدول، بصورة لن يحكمها أي وازع أخلاقي أو إنساني، وهوما يجعل من العمل العام والوجود في دائرة الضوء عبئاً ثقيلاً على صاحبه، ما لم يكن عالماً بعالم التقانة ومحاذيره وسبل التعامل معه.. فهلنشهد تطوراً يساهم في تهذيب التكنولوجيا؟ أم إمعاناً في توظيفها لإيذاء البشرية واغتيال العالم… ننتظر ونرى!