بقلم: المتوكل طه
التقيته ذات صباح في المعتقل، والانفجار العبقري يصّاعدُ بالنشيد والدم والأمل. ولم يكن يعرف القراءة والكتابة، لكنه كان بسيطاً ومؤثراً مثل أغاني الأعراس الرانخة باللوعة والتشهّي. وكنت أصطحبه ساعة "الفورة". وتعمّقت بيننا الجداول حتى فاضت بكل الغيوم والأشرعة. كان يقول دون احتشام: أنا لا أفهم شِعرك ولا شِعر هذا الذي تسمّونه محمود درويش أو القاسم! لكني يا أخي أحسّ بالذي تريدون قوله. وعندما كان يراني أكتب، كان يقترب مني بهدوء ويستلُّ سيجارة ويمضي بها، ثم يعود بعد ساعة أو أقل، فإن رآني منكبّاً على الورق، كان صوته يعلو محتجّاً على شيطان الشِعر، الذي ركبني ولم يعد إلى بيته، وإن كنتُ قد انتهيت، كان يخنس إليّ كأنني أخوه الكبير. وكثيراً ما حدّثني عن عمله في مقلع الحجارة، وكيف جعله ذلك نحّاتاً يزدان المقلعُ بتماثيله. ويصرّ على تعريف نفسه بالفنان، وكنت أجاريه ذوقاً ولياقةً. ثم كان يتفتّح كالربيع أو الشهوة وهو يتحدث عن خطيبته، وكيف "تدلّله". وكيف كانت تذهب إلى مسكب الخَسّ، وتأتي له بواحدة ريّانة، ثم تغسل الخَسَّة جيداً، وتقدمها له ورقة ورقة! ويستدرك معلقاً: صدّقني أن طعم الخسّ العسلي ما زال في فمي!
كان يعلم أنني متزوج، لكنه يسأل: هل أنت متزوج؟ فأبتسم له، فيقول: طبعاً طبعاً، لكني يا أخي أريد أن أسألك عن الزواج، هل هو "مليح و زاكي زيّ ما بحكوا، أم أنه مسؤولية وسمّة بَدَنْ"؟
أقول له إنَّ الزواج "ممتاز" وأدعو له بالهناءة والخلف الصالح. ثم يعود ليحدّثني عن صاحب المحْجَر الذي يعمل عنده، وكيف يجبر العمال على تناول السردين يومياً دون ليمون أو حبة زيتون! ويعلّق قائلاً: صار بطني بحراً مالحاً..
أمضينا معاً عاماً ونصف العام في نفس القسم في المعتقل، علّمناه وقتها الحروف، ثم عاد كلُ منّا إلى بيته أو خطيبته، ولم أره منذ خمسةٍ وثلاثين عاماً. وقبل أيام اتصل بي على هاتفي المحمول، فعرفت صوته فوراً، وسألته مباشرةً عن الخسّ المغسول وعن خطيبته، فضحكَ.. وضحكَ وقهقه، وقال:"صارت مَرتي ختيارة، ولم تعد تقدّم لي الخس". تحدّثنا طويلاً وتذاكرنا، وشكا من تكاليف الحياة، وكيف هجر النحت والتماثيل. ولّما سألته عن المرآة التي كان يحب الوقوف أمامها، قال: ما زالت المرآة صديقتي الأثيرة. وأضاف: أرى اسمك وصورتك في بعض المواقع والمطبوعات، فلماذا لا تكتب عني؟ ألسنا اصدقاء، أم أنك كبرت علينا يا "متوتشل"؟
هأنذا أكتب يا صديقي عنك وعن كل الذين فرّقتهم دروب أوسلو، في مدنٍ قطعوا رؤوسها، في زمن السلام الجنائزي.
*
ما الذي يغريك، أيها الشقيّ، على هذا الحوار الدائري، الممتد من الغبش إلى رماد البراكين ؟ وأنت، منذ صرختك الأولى، تلاعب بعبثية مدركة، سطح المرآة المصقول، لتقيم حوارك الأخرس مع نفسك البعيدة . ذاك السطح الأملس ، الذي رغم انكساره السريع، كسر نرسيس، في أمواجه الرخوة، عندما أقام تشاوفه، أو سقوطه في إغراء الذات. ذاك السطح الذي لا بدّ منه، لتشذيب الشَعر والذقن كل صباح، وضبط الألوان والتباسها وهي تحطّ على البدن.
ذلك الحوار الذي تقيمه المرأة المترددة كفصل الشتاء، منذ يقظتها، لتفتتح حدائقها اليومية، بالتوجّه الى مفاتنها. فأي حوار ذاك الذي يعرّينا أمام سنواتنا، أيتها المرأة المقتربة من النار، بعد أن أقمتِ حوار جسدك الساخن المخفوق، مع شغفك الوقّاد على الضفة الأخرى، تمسّدين الزغب، ليحترق بين يدي الخشونة والدم الشهي، والعسل اللاذع والغرق.
ذلك الحوار، الذي ينقطع إذا استفاقت غمامات البخار، وحطّت كالنمل الأبيض على السطح اللانهائي، العميق الرقيق، الجميل، النضّاح، الأخّاذ، العَبِق، الرَّخِص، المتحفّز، الظمآن، المتناقض الصادق، المتيقظ ، كأنه نهر امرأة يفيض بالجمر والزبد. ذاك السطح الذي لا يكذب ولا يتذكّر، ويتّسع بحياديته إلى كل ما يقابله، ويردّه إلى ذاته، صامت صمت الرمل والزجاج، يحمل الأوزار والأثقال، وتنكشف له الأسرار، ولا ترتعد أطرافه أو تنكمش عيونه المطلقة، يرى كل شيء ولا يشاهد شيئاً.
" أيتها المرآة الهادئة الباردة تحدّثي ولو قليلاً "قال هذه الجملة، وهو يمشّط شَعره صباح ذاك اليوم، ويطمئنّ على ترتيب هندامه اللاّمبالي واختلاف ألوانه ! لكن المرآة سدرت في غيّ صمتها، ولم ترتبك.
مضى إلى عمله أو لبيّاع الدجاج، ليجمع بعض أرغفة لصغاره، على ضوء تجارته الجديدة الرابحة "بيع الدجاج بالمفرّق" . ولكن ما باله يحاكي مرآته، التي بدأ يتسلل إلى صفحتها صدأ الأبخرة السوداء؟
في الأيام التالية بات صديقي يتنبّه الى المرآة، يبحلق فيها، وتبحلق فيه، يحاكيها بصمت، فتعطيه ملامحه كاملة غير منقوصة. ولما شعر أن زوجته ترقبه، ويخاف أن تتّهمه بالجنون، ردّ سترته اليتيمة على صدره وصفق الباب خارجاً.
ومنذ أيام، أيام قليلة فقط، أصبحت المرآة حزينة، لأن هذا الرجل لم يعد يحاكيها ويقيم ذاك الحوار المجاني البسيط معها، لانشغاله بأمر جديد. وازداد سواد الصدأ حتى كاد أنْ يحتلّ كل البياض المحايد المصقول فيها. وأخيراً أصبحت مرآة صديقي صفحة صدأ سوداء كاللوح المدرسي. والآن، كيف سيرتّب هندامه ويحلق ذقنه ويمشّط شَعره في ظل غياب المرآة؟. صحيح أنه كسب لوحاً جديداً يستطيع أن يعلم أبناءه وأبناء جيرانه، على صفحته، الحساب والقراءة والتاريخ، ولكنه خسر ظلّه المرتّب. فهل سيمحو صديقي السوادَ ويُعيد اللوح مرآةً؟ أم سيغضّ الطرف عن ظرف شكله، ويعلّم الناس القراءة والكتابة وأشياء أخرى؟
هذا ما تنتظره المرآة، حتى أقيم أنا، القارئ، حواري المُعلن معها، وسأجاهر حينها بحبّ الحرف أو القميص. وهل ثمة فرق بينهما؟ سنرى أيها الفنان! وخصوصاً أنك نلت، بثقة وامتلاء، جائزة المحبّة، وتأبّطك شعبك، المعوّل عليه، لأنه يعلم العلاقة الجارحة بين ما يدور على مسرح الصفحة البيضاء، أو على المنصّة، أو على اللوحة الملوّنة، وما يدور هناك في الماء الملتهب، الذي يسلخ ريش الصيصان، رغم المفارقة الذابحة، والتباعد أو التقارب الشديد بينهما.
وأرجو لك، أيها المبدع، ألاّ تلتفت إلى صغائر الأمور، فأنا القارئ، صديقك القديم، أتبصّر خطواتك، وأترسّم مسيرتك على القتاد.
وأرجو لك البهجة، رغم تقافز القوارض في البيدر الذي سرقوه، أو حول حابون القلب والحلم.
وأشكرك على اتّصالك. وهأنذا ، كما وعدتكَ، أردّ على مكالمتك العميقة، وأقول بملء روحي، على الصفحات المقروءة، لا تبتئس، فإن قابيل قد قتل أخاه، فلماذا تفاجئك الطعنة؟ وأين حكمتك المُقطّرة، التي تفرض عليك ألاّ تندهش من الدم المتدفق على ظهرك؟ والناس يتنفسّون في خلاياك المعافاة.
عليك أن تتمتّع بالفطنة الوجدانية، التي ستكشف لك علوَّ كعبك .. وضآلة الظلال في المغيب.
واعلمْ أن الدجاج الذي تبتاعه وتبيعه، سيجعلك تربح شرفك، في زمن جمع فيه الكثيرون عَرَض الدنيا، لكنهم خسروا أنفسَهم ورحمة الله الواسعة، ولم يروا الخشبة في عيونهم الزائغة.
سلَّم على عيالك، وقبّلهم عنّي، فإنني أشتاقك، اشتياقي للرجال الأوفياء، الذين بقيت أسوارهم مانعة، ولم يتضاءلوا في يد السيّد المشبوه، ولم يعقدوا صفقة مع الهاوية، وإن كان لهم مجد، فهو البلاغة في هدم مجد" الأنقياء"، لأنهم يُسقطون قطْرانهم على حليب الناس، ليصيروا أمثالهم في المرايا.
اكسرْ مرآتك يا صديقي، فقد تساوى على صفحتها البائع والشاري، في لحظة ارتكاس بشعة، لا تليق بأناقتك، وطهارة ضحكتك، التي سطعت كالشمس الفتيّة، ونحن هناك في ليل القيود، خارج الزمان والمكان.
*
مَنْ يصادف صديقي بائع الدجاج، فليسلّم عليه.