الكاتب: تحسين الخطيب
"حياديّ"، وليد الشيخ، في صنعته الشعريّة؛ فالقصيدة، عنده، "عَفْو الخاطر، لا كَدّ الرويّة"، خالية من "التّصنيع"؛ فعباراته بسيطة، غير متكلّفة، واستعاراته رشيقة، لا تجري وراء المعنى، أو الصّورة، إلّا بمقدار ما تحتاج إلى شيء من "عفو" هذا الخاطر، أو "فيض" تلك البديهة.
كأنه شاعر يكتب قصيدته على درّاجة هوائيّة، منحدرة، في طريق وعرة، صوب البحر!
ولكن، ثمّة، في هذه "البساطة" الممتنعة، جنوح فلسفيّ إلى "نزع الألفة" عن المفردة/الصّورة الشعريّة: "عضلات قديمة، هرمت الآن، في مخافر الجسد"؛ "كي أصل فمك وأتناوله كحبة فلافل ساخنة"؛ "عروق من نبات السفالة"؛ "ظلّت يدك اليمنى وحدها/ مفتوحة بأوهامها الخمسة/ تستجدي الحريّة"؛ "أعرف طريقًا فرعيّاً تجاه الحُب/ سيغلق عمّا قريب بسبب حبّات الكوليسترول"؛ "شفتاك مائلتان تجاه الجنوب باستهتار فادح/ ولسانك علم دولة متسامح مع المثليين"؛ "حتى صارت الابتسامة، التي خلتها،/ أشبه بتأنيب ضمير مبكر"؛ "لتفكيك العزلة/ باعتبارها كاربوريتر الدماغ"؛ "قطعت ثلاثة حواجز عائليّة/ كي أصل فمك"؛ "الكون فكرة معبّأة على لسان أبكم"؛ "كاحتمال أن أرتطم بالحبّ الأول في السوبرماركت/ وهي تدفع حساب سنوات عمر كامل"؛ "أنّ مقترحات جاك دريدا وصلتنا كطبخة المقلوبة"؛ "حيث الأصابع المدمّاة بالطباشير/ والحناجر الصدئة من معلّقة عنتر"؛ "وأنا أنظر إلى أنفك/ نسيت أن أتنفّس"؛ "الندم مدرسة مفتوحة بلا معلّمين"؛ "لا أستطيع أن أحبّك أكثر/ لأنّ كريّات الدم البيضاء تكسّرت"؛ "لو كان شعرك منفوشًا لما تركتك ذلك الصباح"؛ "أشمّ أحلامك بعد أن أجمعها بأصابعي المرتبكة"؛ "الحُبّ حزام ناسف"؛ "يرتفع صوت دمك في الرّاديو"؛ "سأفتح الباب/ كي لا يصير الانتظار/ قنابل موقوته"؛ "ما إن أطلّت يدها: حتى تخلّع الباب"؛ "كأن الغيمات ملابس جافّة لسيدة تهوى المشي على الرمل الحارّ"؛ "جمالك/ لا ريب فيه/ كالخشوع في مطالع الحجاز"؛ "حفنة الأسئلة التي سقطت/ تحوّلت في معدتي إلى حرقة مزمنة".
أمّا الزمن، في القصيدة، عند وليد الشيخ، فهو زمن ماضٍ، ولكنّه دائريّ؛ حاضر، بقوّة، في اللحظة الراهنة؛ في "الهُنَا والآنَ" الذين يضعان القصيدة في مواجهة "أفعالها المضارعة"، بلا شروط مسبقة. يدرك وليد الشيخ، سواء أكان ذلك بالفطرة الشعريّة أم عن وعي مسبق، بأنّ المرء لا يستطيع العيش في "الهُنَا والآن" إلّا بعد أن يعرف، حقَّ المعرفة، كيف "يُبجّل" الماضي. وكيف لا، ومعظم قصائد هذه المجموعة تعرف، معرفةَ المتأمّل، المنفرد بنفسه، المكتظّ بكلّ ما سواه، كيف "تحتفي" بالماضي؛ ليس بوصفه "حدثًا" يترك على جسد الشاعر "أثلامًا تنبت فيها أغصان النّستالجيا"، بل هو "الحدث" الذي يجعله، بالرغم من أنّ "كلّ شيء يمضي أسرع ممّا يجب"، قادرًا على "ترتيب عتبات المساء للتذكّر".
وإنّ مدار الزّمن قائم، في معظم قصائد هذه المجموعة، على ثلاثة أفعال مرتبطة بثلاثة أسماء: "الحب والحرب والحريّة". ولكنّ هذه الثلاثة الأسماء، في فضاء القصيدة، ليست "أسماء" بقدر ما هي "أفعال" في حدّ ذاتها. فإذا كانت أل التعريف، في اللغة، لا تقبل الدخول على الفعل، إلّا أن الشاعر، وهو يخرج الاسماء من حيّز الألفاظ التي تدلّ على معنى نفسها، قد حوّل الاسم المعرّف، لا ليدل على على معانيه، الظاهرة والدفينة، فحسب، وإنّما ليعطى اللفظة الاسميّة تلك القدرة على أن تأخذ "الفعل" إلى أقصى مدى ممكن. يصف الشاعر، في قصيدة "يقظة"، أفعال هذه الأسماء على أنها "أفعال من الماضي"، ولكنّه لا ينسى أن يذكّرنا، في القصيدة ذاتها، بأنّ هذا "الماضي" قد توقّف "عند الساعة 11:59 دقيقة"؛ أيّ قبل انتصاف الليل، وبداية يوم جديد، بدقيقة واحدة. وهو، إذ يفعل ذلك، يضع الأفعال المتعلقّة بـ "ثلاثيّة" الحب والحرب والحريّة في الخزانة؛ فكأنّ خزانة حفظ الأفعال، التي في القصيدة، تأخذ شكل صندوق باندورا المغلق على الشرور جميعًا، وباندورا لا تحاول فتح الصندوق، وفق الأسطورة، إلّا عند انتصاف اللّيل— قبيل الزمن الذي وضع فيه وليد الشيّخ أفعاله في الخزانة— وانتصاف الليل، كما تقول الأساطير، دليل على نهاية العالم. ولكنّ الشاعر، إذ يوقف الزمن قبل انتصاف ليله، بدقيقة واحدة، فإنه لا يريد لعالم القصيدة أن ينتهي. إنّه الزمن الدائريّ، زمن "العَود الأبديّ"، الذي لا يسير في خطّ مستقيم. هي "نقطة" التقاء الماضي والمستقبل في آن، وليست "فاصلة" بين الزمنين أبدًا. ولكي تكتمل القصيدة، ولا تنتهي، فلا بُدّ لزمنها أن يظلّ دائرًا على نفسه.
والمرأة، بتعدد أحوالها ومقاماتها، في المسرح الشعريّ لهذه المجموعة، هي محور الزمن الذي يدور الشاعر في فلكه؛ أو، بالأحرى، المحور الذي تدور في فلكه متوالية "الحب والحرب والحريّة"؛ فهي: "الجارة الغضوبة التي تشير بيدها إلى الماضي وتحدّثه عن الحرب"، والحبيبة التي التّحدث معها في ساعة متأخرة "يشبه رصاصًا طائشًا في حفلات الزفاف"؛ والأم "التي تواصل من قبرها مناداة ابنها عند كل وجبة . . لأن جسده صار نحيلًا مثل قلم رصاص"؛ والمرأة التي "يعرف فمها أكثر ممّا يجب"؛ و "البنت التي تقرأ قصص قصيرة/ لزياد خداش/ على الفيس بوك/ وترسل لايك بحجم ملعب كرة قدم"؛ و"النساء الحائرات/ بالنسخة التركيّة على التفلزيون"؛ وتلك التي "تشرب القهوة مع شاب في الثلاثين . . وتتبادل معه كتب لحسين البرغوثي"؛ و"البنت التي تجيئ في صباحات الإثنين"؛ وتلك التي جعلته "يعيد قراءة المقولات الفلسفيّة/ بتركيز أشد/ على الصدفة والضرورة"؛ والتي "لا يستطيع أن يرى بيتها/ لأنه صار خلف الجدار"؛ وتلك "التي سوف يأخذ معها جولة بكاء ساخنة لأنهما قد نسيا طريق البيت".
إنّ وليد الشيخ شاعر ذو مزاج خاصّ، مخلص للشعر، كفعل حياة، لا كفعل كتابة. ولا يكون "الإخلاص" للشعر، إخلاصًا حقيقيّا، إلّا بالتهكّم والسخرية؛ وهاته النزعة نحو التهكم والسخريّة نزعة أصيلة عند وليد الشيخ، ليس في قصائد هذه المجموعة الجديدة، فحسب، وإنّما في سائر أعماله الشعريّة السابقة، كـ "أن تكون صغيرًا ولا تصدق ذلك" (2007)، و"الضحك متروك على المصاطب" (2003)، على سبيل المثال. ومن يكتفي، فقط، بالنظر إلى عناوين دواوينه، وعناوين قصائده، أيضًا، يدرك، على الفور، بأنّ السخرية اللاذعة والتهكّم الصارخ هما "سلاح" وليد الشيخ في مواجهة القدَر؛ قدره، كشاعر حقيقيّ، أوّلًا؛ وكفلسطينيّ يعيش "غريبًا" في أرضه، ثانيًا، وإلى ما لا نهاية. ولن يستطيع الشاعر الفلسطينيّ، أيّ شاعر، بالنسبة لي على الأقلّ، أن يكون قادرًا على "مجابهة" الحياة، بأقلّ قدر من الخسارات والعذابات، وأن تظلّ روحه "بيضاء من غير سوء"، إلّا بالتهكم الجارح، والسخرية التي قد تصل، أحيانًا، إلى درجة قد يعدّها المتزمّتون (شعريّاً، وحياتيّاً) "وقاحة" غير ضروريّة، أو "ضرورة" غير شعريّة! ولكنّ سخرية وليد الشيخ وتهكّمه (الذين تشوبهما مسحة من الحزن والكآبة، في بعض المطارح من الكتاب) لا يجنحان إلى إظهار "الضعف الإنساني"، بقدر ما يسعيان إلى "خلق" حياة "بدون أعراض جانبيّة"؛ فهو (حتى في القصائد التي قد تبدو "جادّة") لا يسخر من كل شي يدور حوله (كالأفلام والأغاني والرموز الثقافية والنظريات الأدبية والمناهج الدراسية ومؤسسات الثورة، والموت والحياة، والتاريخ، إلخ) فحسب، وإنما يعمد، أيضًا، إلى السخرية من اللغة ذاتها، ومن الشعر نفسه، ومن نفسه هو، كشاعر، قبل كلّ شيء. ففي قصيدة "قراءة"، يقول وليد الشيخ: "أظنُّ/ أنني حداثيّ أكثر مما توقعتُ/ لذا، عندما أمطرت بالأمس، قرأت إيمان مرسال/ وانتبهت/ أنني غالبًا، في ديسمبر، أقرأ قصائد مقاتلة/ لأولاد وبنات يتبادلون قبلات ساخنة في الأسانسير/ قصائد الأسانسيرات لها طعم الخوف/ لذا/ أستعجل في قراءتها/ ولا أصل إلى الطابق الأول". ويقول في قصيدة "عندما مر وجهك بالبال": "كنتُ حياديّاً/ مثل صيف باهت/ بلا حروب/ ولا معاهدات صلح/ وحده/ الكلب الذي نبح في صدري/ ظلّ يحفر في الندم/ مثل حصان خاسر". وتبلغ هذا التهكّم مداه، حين يقول في قصيدة "الخروج على المتدارك": "هل تريدون شعرًا جديدًا هذه المرّة؟/ إذن: عليكم بناء مترو/ وممرات مشاة/ وبارات كثيرة كثيرة/ وأحزاب بلا أمناء عامّين/ وجرائد صفراء وحمراء/ وتوسيع الأرصفة كي يمر النّاس/ وساحات عامة للتظاهر بسبب وبدون سبب/ للمتعة فقط (متعة التظاهر قد تؤدي إلى قصائد بإيقاعات تهزّ الأبدان) وعليكم أيضًا من باب الاحتياط/ أن تجعلوا الواي فاي يغطي البلد كلّها/ وأن لا تغضبوا من الصغار الذي لا يحبّون قصيدة سجل أنا عربي (ومن الكبار أيضًا)/ وأن تتسامحوا لدرجة الملل/ من تبادل القبلات بين الأولاد والبنات/ في الكراج (يجب أن يكون لكل عمارة كراج كي يتبادل الأولاد والبنات القبل)/ كشرط موضوعيّ/ حتى تخرج القصائد عن البحر المتدارك".
هذا هو وليد الشيخ، في سخريته وتهكمّه: لا يتنفّس الشعر، كـ "ضرورة بيولوجيّة"، وإنّما يكتب بـ "قلب ملئ بالنهايات" شعرَ "الحياة الملوّنة"!
• وليد الشيخ: شاعر فلسطيني من مواليد مخيم الدهيشة في بيت لحم سنة 1968. صدر له، في الشعر: "حيث لا شجر" (1999)، و "الضحك متروك على المصاطب" (2003)، و"أن تكون صغيرًا ولا تصدق ذلك" (2007)، و"أندم كلّ مرة" (2015). وله، في الرواية: "العجوز يفكر بأشياء صغيرة" (2012).