الأحد: 08/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

تكميم الأفواه ... إلكترونياً!

نشر بتاريخ: 04/10/2023 ( آخر تحديث: 04/10/2023 الساعة: 09:11 )
تكميم الأفواه ... إلكترونياً!

بقلم: د. صبري صيدم

لطالما تباهى كثيرون من أرباب الإعلام الاجتماعي بحمايتهم لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي، حتى إن انتشار الإنترنت وتفاعل الناس معها في عالم العولمة، قد رسخ قناعة الجميع بأننا بالفعل أمام قرية كونية حقيقية لا وهمية، وأن مساحة الحرية فيها لا تعرف حدوداً ولا قيوداً.

وقد تميز عصر انتشار التقانة بمكوناتها الحديثة، التي عايشناها على مدار عقدين من الزمن، بإقبال كبير من مستخدمي الفضاء الإلكتروني، بصورة فاقت الإقبال على الاشتراك بخدمات الكهرباء والاتصالات، وشراهة اقتناء وسائل الحداثة على أنواعها. هذا الإقبال في ظاهره تقني، لكنه فعلياً قائم على نوازع الرغبة في اكتشاف الثقافات الأخرى والانفتاح على العالم وتسريع عجلة التواصل الآدمي والحصول على الخدمات المختلفة والمتزايدة على تنوعها.

لكن وهج الوعد بحرية التعبير، بدأ يخبو خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة مع احتدام النزاعات العالمية والإقليمية، وانتشار التطرف واتساع رقعة التشدد الديني والتنافس التجاري، إضافة إلى تنامي عوامل الخلافات والنزاعات وحرب المصالح. وقد قاد هذا التضييق على ما يبدو إلى ولادة شعورٍ عارمٍ بأن الحرية المتاحة لم تعد ممكنة، وأن تقويضها وفقاً لطلب بعض الوكالات الاستخباراتية العالمية بات أمراً مسلماً به، تتعاطى معه معظم الشركات المالكة لمنصات الإعلام الاجتماعي على اختلافها، خاصة بعد أن حاول البعض منها وقف التدخل الذي أرادته تلك الوكالات، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل ليستسلم هؤلاء ويفتحوا منصاتهم أمام عوالم الكبت والكتم والحجب والتنكيل الفكري، ليقوموا بذلك بعمليات التنكيل الرقمي، جهاراً نهاراً تحت راية حجج مختلفة، وبذلك انتقلت البشرية من تكميم الأفواه التقليدي إلى تكميم الأفواه الإلكتروني، وهو ما خلق المساواة الواضحة بين من اعتادوا وأد الحريات، وأولئك الذين أشبعونا ولعقود طالت، دروساً ومحاضرات ومواعظ حول حقوق الإنسان بكامل مكوناتها. وبهذا فتحت بعض الشركات أبوابها لتكوين مجالس استشارية محلية يقودها أرباب المؤسستين الأمنية والعسكرية في عدة بلدان، حتى إن كان هؤلاء موغلون من حيث تاريخهم في التطرف والعنصرية والتحريض المعلن.

تكميم الأفواه هذا وإن غلف بحجج عديدة أو ادعاءات مختلفة، بات فاقعاً، بل فاقعاً للغاية وهو ما لا يخفى على جمهور المستخدمين للتطبيقات المحوسبة على اختلافها.

فالتضييق على المستخدمين في تزايد، وهذا ما قطعت فيه إسرائيل مثلاً شوطاً كبيراً وواضحاً، يمتد ليشمل استخدام المعدات والتطبيقات ذات العلاقة ووحدات الرصد الآدمي والرصد الرقمي وتقنيات التجسس المباشر، وصولاً إلى حد الاعتقال على خلفية مواقف تطرح في الفضاء الإلكتروني، إضافة إلى تعديلات أدخلت على الخطوات العدلية والقوانين ذات العلاقة، لتسهيل البعد الرقابي وتجاوز الخصوصية وحدود السرية والامتيازات الفردية المدرجة في التعريفات المصاحبة لعديد التطبيقات كمجمل شروط يوافق عليها المستخدم قبيل إتاحة تلك التطبيقات أمامه للاستخدام.

لقد ولى عهد الخصوصية الرقمية، وما صاحب انتشار الإنترنت من وعود براقة بحرية التعبير، لتنزلق الشركات المشغلة للفضاءات الإلكترونية في مستنقع رغبات الدول المهيمنة، ولتطيح بتلك الحريات مقابل تدفق أعمالها وحماية مصالحها.

وبذلك تفاقمت شكاوى المستخدمين ومعها تفاقم انعدام الخجل لدى بعض الشركات تحت حجج مختلفة ومبتذلة ومفضوحة، تطرحها في إطار التفنن في اختلاق الذرائع وتنميقها لحجب المحتوى أو تعطيل انتشاره.

وعليه فإن العصر الذهبي للحريات في الفضاءات الرقمية قد غاب واستتر، لتصبح تطبيقات الإعلام الاجتماعي اليوم مماثلة لعصر رجل المخابرات التقليدي، الذي اعتاد استحداث ثقب في الجريدة اليومية ليمارس عملية الرقابة خلال ادعائه قراءة تلك الجريدة. فهل تسترجع البشرية حريتها المسلوبة، أم أن استفحال التكميم الحاصل للأفواه إلكترونياً قد خلق مساراً لا عودة عنه؟ ننتظر ونرى!

[email protected]