بقلم: د. صبري صيدم
ما أن خرجت تلك الصور الأليمة من المشفى المعمداني من غزة حتى أصيب الناس حول العالم بالصدمة لهول المحرقة التي حلت بالأطفال والنساء هناك، خاصة مع العدد المهول للشهداء الذي ارتقوا بفعل القصف الصهيوني الظالم.
ومع هول الفاجعة وما صاحبها من تغطية إعلامية اكتسحت كل القنوات وثارت بسببها العواطف والأحاسيس، تولدت القناعة بأن الحرب انتهت! شعور تعمق مع كل صورة رشحت من مسرح الجريمة لأشلاء وجثث متناثرة. مشهد دراماتيكي جارف اعتقد الكثيرون بأن إسرائيل لن تقوى على مواجهته أمام العالم الذي عاش عبر شاشاته فظاعة الواقعة وبشاعة تفاصيلها.
لكن الانجرار وراء العاطفة الجارفة أثر حتماً في ذاكرة الناس لساعات فلم تستحضر ذاكرتهم جرائم مماثلة تبرأ الاحتلال منها بسيناريوهاته الجائرة ودعم «ماكنات» إعلامية ضخمة حول العالم. لم يتذكر جمهور المكلومين مذبحة قانا، ومقتل عائلة هدى غالية على شاطئ بحر غزة، وشيرين أبو عاقلة ومحمد الدرة وغيرهم الكثير من المشاهد التي لا يمكن إلا أن يدان بها الاحتلال، ليعود بالتبريرات والأكاذيب والادعاءات ذاتها مدعوماً اليوم بتقنيات الذكاء الاصطناعي القادرة على الفبركة وصناعة الأدلة الزائفة، وينفض يديه من الجريمة.
وبذلك استمرت الحرب وحممها وتعاظم القصف ليكون التاريخ شاهداً على الطفل الذي استلقى على الأرض إلى جانب شقيقه الغارق بالدماء طالباً منه ببرودة أعصاب أن ينطق الشهادة تمهيداً لاستشهاده، ولا ذلك الطفل الذي طلب منه المسعفون تنحية الحقيبة التي كانت على ظهره فرفض وعندما سئل عن السبب أشار إلى أنها تحتوي على أشلاء شقيقه، وذلك الطفل الذي حمل بقايا أخيه في كيس بلاستيكي وهو غارق في الدموع. يضاف إلى ذلك كله مشهد الأطفال وهم يصطفون أمام طفل آخر، كان يحمل قلماً ويخط على أجسادهم أسماءهم حتى يتعرف عليهم المنقذون بعد أن يطالهم القصف ويرتقون، وتلك المرأة الحامل التي استشهدت فقاتل الأطباء الدقائق من الزمن ليخرجوا مولودها من رحمها وجسدها الميت.
جرائم لن تكون إلا وصمة عار على جبين الإنسانية التي تواطأت وتساوقت وبررت ومهدت وباركت وساندت ودعمت وأيدت وشرعنت ونصرت هذا الظلم على الشعب الفلسطيني. بشرية تحملت بشاعة المشاهد والمواقف والتصريحات وصولاً إلى اتهام الفلسطينيين جهاراً نهاراً بأنهم «حيوانات بشرية»، وأن قتل الآمنين في غزة مشروعٌ لأنهم اختاروا من يحكمهم! طفل رضيع، وفتى يافعاً، وصبية صغيرة، اختاروا من يحكمهم. مدانة هي البشرية التي سمحت بالترحيل والتهجير وقطع إمدادات الماء والكهرباء والوقود والدواء وكامل مقومات الحياة عن غزة. البشرية التي قسمت الناس على من يستحق الحياة ومن لا يستحقها، وكأنها تقول إن البشر درجات، فهناك من له حق بالحياة وهناك من يجب أن يحرم منها!
البشرية العاقلة مطالبة اليوم بوقف النار في غزة وفرض الحل العادل للقضية الفلسطينية وعدم إهدار الوقت في تصريحات استعراضية يوارب فيها أصحابها الحقائق، فيتحدثون عن ضرورة مراعاة القانون الدولي في الحرب وتوفير ممرات إغاثية وفرض هدنة مؤقتة.
فالمطلوب وضع الحد لنزوات حكومة الطيش في تل أبيب والتحلي بالمسؤولية الأخلاقية بإنهاء الصراع على أرضية القانون الدولي والعدل والعدالة. فكيف لقطع الكهرباء عن حاضنات الأطفال الخدج، وآلات تكرير الدم للمصابين بالفشل الكلوي، وغرف العمليات ومحطات تكرير المياه أن تجلب الأمن للاحتلال؟
لم تعد البشرية تمتلك ترف اللعب على المصطلحات، وإطالة أمد التعامل مع القضية الفلسطينية وكأنها ليست بالأولوية الأولى، فالفلسطيني محب للحياة إذا ما استطاع إليها سبيلاً، لا يبحث عن قتل الآخرين، بل عن تحقيق ميلاد دولته وعاصمتها القدس.
لقد بلغت القلوب الحناجر، وضاقت الدنيا أمام الظلم ورائحة الدماء المنبعثة من فلسطين، وهو الأمر الذي لا بد وأن يشكل فرصة ذهبية لإحقاق حقوق الفلسطينيين، وتحقيق أحلامهم وتقرير مصيرهم وإقامة دولتهم. فهل يقود هذا العالم «بشرية مع وقف التنفيذ»؟ أم يقوده العقل المؤمن بأن لا سلام لأحد ولا أمان لأحد دون أن ينال الفلسطيني حقوقه وآماله.. ننتظر ونرى!