د. صبري صيدم
تزامنت كتابة هذه الكلمات مع استقالة مدير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في فلسطين النمساوي فولكر تورك، الذي كشف الستار في رسالته القوية التي أرسلها إلى الأمين العام للأمم المتحدة عن ما سماه استسلام بعض هيئات المؤسسة الأممية أمام إسرائيل وأمريكا، وأن أوروبا دخلت مرحلة مهمة في إنهاء ما تبقى من الحياة الفلسطينية، وأن ما يتعرض له الفلسطينيون إنما هو حرب إبادة.
كلام تورك يؤكد المؤكد، على الرغم من صدور بعض التصريحات المشجعة من بعض الشخصيات الأممية، وعلى رأسها ما قاله الأمين العام أنطونيو غوتيريش أيضاً مع كتابة هذه الكلمات، حول انتقائية إسرائيل في تطبيقها للقانون الدولي قائلا: القانون الإنساني الدولي واضح وليس قائمة يمكن الاختيار منها وتطبيقها بشكل انتقائي.
ولعل المفوض السامي يدرك تماماً أثر الإعلام في فبركة الإشاعة والرعب والتهديد والحجج والأوهام والانتصارات، بصورة تساهم في قيادة المعركة بكامل تفاصيلها عبر صناعة الرأي والموقف وتوجيه المزاج العام، وهو ما يعتبر تضليلاً ممنهجاً، بل تكتيكاً معروفاً في زمن الحرب، وما يمهد لها، وما يتبعها.
ولو كان للإعلام دوره في قيادة المعارك والحروب سابقاً بنسبة وصلت مع حرب الخليج الثانية إلى 50% من إدارة المعركة، فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تعاظم دورها خلال الأعوام الماضية، إنما رفعت تلك النسبة اليوم مع حرب غزة إلى 75%.. نعم الإعلام والذكاء الاصطناعي يستحوذان على ما يزيد عن 75% من نسبة إدارة حرب اليوم. فمذبحة المشفى المعمداني وجباليا لم ولن يغيب عنهما الذكاء الاصطناعي، أو الإعلام الموجه، كذلك الحال بالنسبة لسير العمليات الميدانية، لتبقى الحقيقة هي الضحية الأولى في معركة المواجهة وعض الأصابع. أما فبركة المواقع والتطورات لعرضها في المؤتمرات الصحافية المختلفة وما يصاحب ذلك من أفلام، إنما يخضع أيضاً لتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ولو كانت أكذوبة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مجلس الأمن في يوم 5/2/2002 عبر استخدامه في كلمته صورا للأقمار الصناعية وتسجيلات لمكالمات بين مسؤولين عراقيين بهدف إقناع حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها المتشككين بوجود أسلحة دمار شامل عراقية، ومختبرات متنقلة للأسلحة البيولوجية، قد قادت نحو موافقة مجلس الأمن على غزو العراق، فإن ما يمتلكه البعض اليوم، كافٍ لشرعنة الحرب في غزة وطمس حقائقها وصناعة الأدلة والحجج والانتصارات والتضليل وفبركة التطورات.
يضاف إلى هذا كله خنق متعمد لوسائل الإعلام الاجتماعي وحرية الرأي والكلمة، وهو ما أطاح بكل ما حاولت البشرية تجسيده من شعارات زائفة حول حرية التعبير والانفتاح وحقوق الإنسان.
اليوم بتنا أمام حرب تشبه لعبة الحرب الإلكترونية والتي لا تعرف ضوابط ولا قيماً ولا أخلاقاً، بل إن النصر فيها قائم على تعاظم القدرة على التدمير وقتل الناس دونما حسيب أو رقيب، فهل يستمر الحال على حاله، أم يعود العالم بعد أن تضع حرب غزة أوزارها إلى تقييم المنظومة الأخلاقية برمتها؟ ننتظر ونرى!