الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ليلة خسوف في اريحا.. بقلم: عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 15/03/2006 ( آخر تحديث: 15/03/2006 الساعة: 12:07 )
معا- راقب العالم طوال يوم 14/3/2006 العملية العسكرية الاسرائيلية ضد سجن اريحا واختطاف الاسرى وعلى رأسهم الامين العام للجبهة الشعبية النائب المناضل احمد سعدات..هذه العملية التي وصفت بارهاب دولة وبجريمة خطيرة ومؤامرة انتهكت القانون الدولي الانساني واتفاق رام الله وكل الاعراف والمفاهيم الانسانية جرت كافة مشاهدها وفصولها امام صمت المجتمع الدولي الذي تخدر منذ زمن واعتاد على مشاهد قتل وذبح واعتقال الفلسطينيين دون ان يتحرك ويمارس مسؤولياته القانونية والاخلاقية.

لقد مزقت اسنان الجرافات الاسرائيلية الشريعة الدولية وكافة القرارات المناصرة للحق الفلسطيني وبصقت في وجه كل الهيئات والمنظمات الدولية التي تحولت الى غبار غابر امام عربدة القوة الطاغية وهي تمارس الامعان بالقتل والهدم والاذلال كقوة فوق القانون وفوق الاعتبارات البشرية.

كانت الارض الفلسطينية في تلك الليلة الصعبة والثقيلة تقع بين الشمس والقمر، لقد اختفى القمر بعد ان غطته ظلال المجنزرات والطائرات وسحابات الدخان والرصاص في خسوفٍ فظيع، ليدخل الجميع في العتمة، شهداء تحت الجدر المهدومة، وجرحى يصرخون، واسرى يفتشون عن قرار، ينتظرون وينتظرون ان يظهر وجه الشمس قليلاً او يعلن احدٌ أي احدٍ ان اريحا لم تغرق في البحر المالح ابداً.

لأول مرة في التاريخ المعاصر يهاجم سجن سمي بالسجن الدولي، وبحملة عسكرية هائلة وبطريقة المافيا والقراصنة تنتهك ما تبقى من القليل من الكرامة والسيادة للسلطة الوطنية الفلسطينية ولكل مسؤولٍ وحرٍ ومناضل يعيش على هذه الارض الجريحة...وليتكرر من جديد امام الكاميرا وعيون العالم مشهد الاستعباد والاذلال باجبار قوات الامن الوطني الفلسطيني على خلع ملابسهم ورمي شاراتهم العسكرية على التراب...هذا المشهد كفيلٌ بأن يعود الرئيس من رحلته الخارجية، وكفيل ان تحل السلطة نفسها حجراً حجراً وكفيل ان تعلن كافة الاحزاب حل نفسها واغلاق مقراتها وانزال يافطاتها وشعاراتها والعودة بسرعة للانتساب الى حركة التحرر الوطني واصدار بيان واضح بأننا الشعب العربي الفلسطيني نخضع شعباً وارضاً وروحاً للاحتلال والاستعمار وان تجربة الجمع بين وجود سلطة ووجود احتلال قد فشلت، لأن ما يجري هو تصفية للقضية، وتحويل شعبنا الى اقليات وهنود حمر، وبعد ان حولت دولة الاحتلال نضالنا المشروع الى ارهاب، وتعاملت مع كل فلسطيني بمثابة عدو، وان امن اسرائيل ومصالحها الانتخابية والحزبية يجري على حساب حق تقرير المصير والحرية والاستقلال.

في ليلة الخسوف المخيفة التي جرت في سماء مدينة اريحا، ادرك الجميع، القاصي والداني ان كيان السلطة الفلسطينية قد تحول الى مصيدة للمناضلين والمقاتلين والاحرار، فقد اغتيل القيادات واعتقل الشرفاء والامناء العامون للاحزاب الوطنية، ومرغت كرامة الانسان في الطين والوحل، لنصبح بذلك مكشوفين لا حدود لنا، لا شوارع، لا حقول، لا سماء ولا بحر، لم يبقى لنا سوى الطاعة والعيش في تجمعات سكانية حدودها الجدار، تحيط بنا الكتل الاستيطانية على تلال جبالنا، أبناؤنا في السجون وغياهب المؤبدات، نتمسك بالاتفاقيات وخريطة الطريق وهماً منا انها تحظى بشرعية دولية لم تعد قائمة امام الحقائق الصعبة على ارض الواقع ارض حصار القضية وتمزيق ابجديتها الوطنية.

في ليلة الخسوف، ليلة الحرب الاسرائيلية على احمد سعدات، قال الليل كلماته، لأني رأيت الالم والبكاء يقطر من مقل الناس وهي تراقب المذبحة، وترى منهج الاذلال ولا معين في تلك الليلة سوى الله، وسوى ارادة سياسية جديدة مختلفة يجب ان تتبلور وتقول لهذا السيناريو كفى...ولهذا الليل المستمر توقف...

لقد افصح الليل المعبأ بالحديد والاليات والدماء عن كل شيء، قال لنا: لقد حولتكم اسرائيل الى شعب المتسولين، تعاقبون على خياركم الديمقراطي، وتعاقبون على نضالكم المشروع ضد الاحتلال، وتعاقبون على نشيدة انسانية تهتف لعكا وصفد والكرمل وللبحر المتوسط...

وقال ليل اريحا: لأول مرة تسجن حركة تحرر وطني وتفقد كل ادواتها...تجلسُ في المكاتب والوزارات والسفارات وتنفتح على العلاقات العامة وكل ما حولها وما فوقها وما تحتها جنازات وحرائق ونيران وجدران وحواجز وفقرٌ وجوع وسجون مزدحمة بالاطفال وبالنساء وبالاجيال المعلقة على مؤبدات المجهول...

لم يلتفت احمد سعدات للوراء ولم يلتفت يمينا ولا يساراً، لم يرفع يديه، لم يخلع ملابسه...ظهر هادئاً وكأني رأيته يحرك بأصابعه قاع البحر القريب، وجمرات الليل الساخن...القى سؤاله الصامت على الدنيا واختفى قبل الصورة..

ليلُ اريحا كان قاسياً...تحرك في الشرايين والحجارة وبيوت الطين...لم يكن خسوفاً مؤقتاً، كان جنوناً لا يبشر بظهور القمر مرةً اخرى...هو دعوة للبحث عن رؤية اخرى...عن شريك جديد لا يربطنا بأمن اسرائيل ومخططات اولمرت ونتنياهو...عن شخصية مختلفة لنا لا تتماهى مع ظلال السجان...شخصية لا تتعرى امام جنودهم وبلطجتهم، لا تترك سلاحها وروحها وحجارتها، وتعتذر عما فعلت امام الله والقدس والشهداء..