د. صبري صيدم
لا أعتقد أنه سبق للبشرية أن ترددت في مشاهدة بعض الصور والأفلام، كما فعلت مع ما رشح من قطاع غزة الحبيب مؤخرا، ليس لبشاعتها وقساوتها ورعبها فحسب، بل لأن البشرية ذاتها لم تكن لتتخيل أن أحداً من البشر، إنما يقبل بفعل ما أقدم عليه جنود الاحتلال الصهيوني من قتل وحرق وسحق ومحق وتنكيل وتشويه وبشاعة، بحق شعب أعزل كالشعب الفلسطيني.
والأمر بضراوته لا يقف عند أولى خطوات الخرق الواضح للقانون الدولي، عبر إجبار الناس على الرحيل والنزوح، بزعم الحرص على حياتهم وممتلكاتهم، بل يتعداه ليعقب ذلك النزوح قصف وتدمير وسرقة وحرق وتفجير وتجريف لمعظم المنازل التي رحل عنها أهلها، ليضاف إلى ذلك أيضاً تدميرٌ كاملٍ لكل مقومات البنى التحتية والخدمية والإنسانية، من مشافٍ ومدارس وجامعات وعياداتٍ ومجارٍ ومياه وكهرباء وكنائس ومساجد، بهدف إفناء سبل العيش والحياة وفي خرق إضافي للقانون الدولي.
وفي هذه الأثناء اشتد القصف على المناطق التي أدعى الاحتلال الصهيوني أنها آمنة، في خرقٍ متصاعد للقانون الدولي، ليتوسع ألبوم الصور المخضبة بالدم والأشلاء وقساوة الإنسان على الإنسان. وبين هذا وذاك تعزز الدمار وتزايدت صور الموت، لتشمل فقأ الأعين، وسحق الجثث، ودهس الشهداء، وترك جثثهم لتتحلل على طول الشوارع وعرضها، ولتنهشها الكلاب والقطط الجائعة، في خرقٍ آخر للقانون الدولي.
وبينما كانت البشرية شاهدة على مرحلة جديدة من جسارة البشر على البشر، رأينا إغلاقاً تاماً لمعابر قطاع غزة، في تعزيز للنهج القاضي بإعدام الحياة كاملة من غذاء وماء ودواء، وفي خرقٍ مستمر للقانون الدولي.
ومع هذا المشهد الدراماتيكي بدأت سلسلة التصريحات الصهيونية العنصرية، ليزعم أحدهم أن جيشه يقاتل حيوانات بشرية، بينما قال زميله بأن علينا أن نلقي قنبلة نووية على قطاع غزة، ليأتي سيدهم بخطاب عقائدي تحريضي يدعي أن معركته هي في وجه العماليق، حسب الرواية الدينية المزعومة، وليراكم هذا كله على مشهد الحاخامات الذين تقاطروا لدعم الرواية التي تروج لها المدرسة الإفنجالية بعودة المسيح المنتظر، وليتعزز القتل والسحق والتنكيل في خرق جديد للقانون الدولي.
ووسط خطاب التحريض هذا، عرفنا «روح الروح» التي استشهدت بين يدي جدها، والطفل يوسف الأشقر صاحب الشعر المجعد، وعرفنا أيضاً ذلك الأب الذي اضطر لبتر ساقي ابنته دونما تخدير، وعلى طاولة مطبخ بيته لانعدام كل وسائل العلاج ودمار غرف العمليات، لتشكل هذه المشاهد وغيرها من آلاف المشاهد خرقاً مستداماً للقانون الدولي.
شاهدنا أمهات يقنصن، وأطفالا تقطع أطرافهم، وأطفالا آخرين يحضون أشقائهم على النطق بالشهادة، وهم يزحفون رويداً نحو الموت، بينما كان الأطفال الخدج يموتون ويتحللون في مشافي غزة في خرق إضافي للقانون الدولي. آباء يغتالون أمام أولادهم الأطفال، وأمهات يستشهدن وسط أطفالهن، ورجال عراة يقفون في برد كانون ينتظرون تحميلهم في سيارات الاعتقال، من دون احترام ولا اكتراث بالقانون الدولي الإنساني. وأمام هذا الكابوس استمرت الحرب لـ 103أيام مع نشر هذه الكلمات، بينما استعرت حرب أخرى خلف قضبان السجون بحق السجناء الفلسطينيين، وحرب ثالثة في الضفة الغربية، بتسليح أبناء الغزاة من المستوطنين، وتوسيع المستوطنات، وتهجير العديد من التجمعات البدوية من مضاربها، وتقطيع الأوصال، وقصف المقار والمباني، وتجريف الشوارع، واقتحام المخيمات الفلسطينية البطلة والمدن الصامدة، واعتقال الناشطين وتخريب الممتلكات، في خرق إضافي للقانون الدولي والقرارات الأممية على تعددها، ليعزز هذا الخرق استمرار الاعتداء على أهلنا في الداخل أيضاً.
وأمام هذا الحال السريالي يصر البعض على أن إسرائيل لم ترتكب جرائم إبادة، معقول؟ ولم تخرق القانون الدولي الإنساني! بل ذهب البعض دولاً وأشخاصاً، ليدافعوا عن دولة الاحتلال في كل مكان بما فيها محكمة العدل الدولية ويوفروا لها الأرضية السياسية والمعنوية والتسليحية لاستمرار عدوانها وصلفها وتجبرها.
مشاهد وقصص ومواقف وأفلام وروايات وتصريحات، لا يمكن لعاقل أن يتحملها! لقد ماتت القيم وانتحرت البشرية وجفت مفردات اللغة ومشتقاتها..لا، لا يمكن لإنسان أن يحتمل كل هذا الظلم، لا برؤيته ولا بالتعايش معه. ظلم لم تردعه مسيرات ولا مظاهرات ولا قرارات ولا قمم ولا محاكم، مهما بلغت ومهما حملت من دعوات وصيحات ودوافع لوقف الحرب.
لكن هذه الحرب ستموت في يومٍ ما، وسيعود الناس لاستعراض المحن، وبشاعة الإنسان وكم الإثم الذي ارتكبه في طحن عظام خصومه… عندها سيكون من قضى قد قضى، وما دمر قد دمر، ولن ينفع الكلام ولن ينفع النحيب، لذلك ومع محطة كهذه ستجد البشرية نفسها أمام حاجة ملحة للتمحيص في حالها لتعيد تعريف مفاهيم الآدمية والحياة أمام كم الأكاذيب التي أطلقت بحثاً عن نهج حياتي جديد؟ فهل للبشرية أن تتعظ؟ ننتظر ونرى!