بقلم: د. صبري صيدم
مع كل يوم من أيام حرب الإبادة المشتعلة حالياً في فلسطين، يتأكد للعالم أن الهدف الأساسي للمشروع الصهيوني إنما يكمن في إفناء الهوية الفلسطينية، وإزاحتها بالكامل عن الأرض العربية، تهجيراً أو قتلاً. فنتنياهو- «نيرون» العصر الحديث، لن يقف عند أبواب القدس، وإنما عند أبواب جهنم، التي يريدها أن تحرق من يصفهم بـ»عماليق» اليوم الذين، وفق الرواية الدينية، يجب أن يقتلوا حسب زبانية نتنياهو، وتقتل بذرتهم من أطفال رضع قبل سحق الشيب والشبان.
الفلسطينيون إذن من أقصاهم إلى أقصاهم، ومن فتحهم إلى حماسهم وحسب تل أبيت، لا بد من أن يسحقوا تحت جنازير دبابات شلومو، وحمم طائراته وصواريخ راجماته وقذائف بوارجه الحربية، فمن يموت فقد مات، أما من يبقى فعليه أن ينضم وبسرعة إلى قوائم المهجرين، أو يواجه الموت والإعدام.
وعلى الرغم من جلوس إسرائيل على مقعد الاتهام أمام أمم العالم في محكمة العدل الدولية، إلا أن وتيرة القصف والقتل والدمار في الآونة الأخيرة لم تتراجع قط، إذ استمر جيش الاحتلال أيضاً ببث مقاطع إبادية يومية، مضافة إليها سلسلة لا تتوقف من سيل التصريحات الصادرة عن أركان حكومة تل أبيب وجيشها، التي تتوعد الفلسطينيين بصنوف العذاب والقتل والتهجير.
أمام هذا وذاك أذعن الكثير من ساسة العالم، ممن أعمتهم الرواية الصهيونية بالأمس القريب، إلى ضرورة إعطاء الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته وفق قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، مصرين على أن لا أمن ولا أمان ولا استقرار في المنطقة إلا بحرية الفلسطينيين، لكن الكلام المعسول غالباً ما يكون ممهوراً بضرورة أن يأتي هذا الاستقلال في إطار مفاوضات، أو خرائط طرق، أو عملية من شأنها أن تقود لإقامة دولة فلسطين.
ومع هذا النفس المتطور لمن تمنعوا بالأمس، يتجدد الحديث عن فرص التطبيع الإسرائيلي- السعودي بحيث يقترن هذا الأمر مع حل الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن ضمن منظور مستهلك قائم على لغة مطاطة وتعابير فضفاضة تعيد الفلسطينيين إلى ما اختلق من مفردات عملية السلام السابقة، ليعاد الحديث عن طريق تقود إلى إقامة الدولة الفلسطينية، أو مسار يفضي إلى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، أو خريطة طريق جديدة، عبارات مستهلكة، ونهجج ممجوج، وأفكار متهالكة يعاد إحيائها.
وفي هذا النهج إنما يتساوق دعاته مع تغول الاحتلال وجبروته وسطوته، بحيث يشعر الفلسطينيون بأن ما يتم إنما يتقاطع من جديد مع رغبة البعض في أن يدفع باتجاه تفصيل عملية سلمية شكلية، استعراضية لا تغني ولا تسمن من جوع، مقابل استدامة الاحتلال وتوسيع مستوطناته وفرض واقع جديد على الأرض يفرض على الفلسطينيين القبول به على أرضية الواقعية السياسية، وهو ما يعني أن قرارات الأمم المتحدة في ما يخص العراق والصومال وغيرها تطبق بحذافيرها، بينما تخضع وبعد هذه المحرقة، التي حرقت شعبا بأكمله، وعندما يتعلق الأمر بفلسطين، إلى «مطمطة» واستطالة لم يعودا مقبولين.
لذلك لا بد من، وبتجرد، أن توضع النقاط على الحروف وفق ما يردده الشارع الفلسطيني، الذي بات بدوره يتردد في التعامل مع حل الدولتين وأخذ يقترب من حل الدولة الفلسطينية الواحدة متعددة الأعراق والأديان، فلغة الأمس وتلكؤ الماضي لم يعودا يصلحان لمستجدات اليوم، خاصة بعد الدم الذي سال والفاشية التي قادتها إسرائيل في وجه الرضع والأطفال والنساء والشيوخ والحجر والشجر في فلسطين قاطبة. هنا أعود واستحضر كلمات عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين: لا يمكن معالجة المشكلة بالأدوات ذاتها التي تسببت بها. فهل يتعظ العالم ويقتنع بأن ثمن هذا الدم الذي سال لا يمكن إلا أن يكون استقلالا كاملا وحرية وخلاصا لفلسطين؟ ننتظر ونرى.