بقلم: د. صبري صيدم
ربما يكون هذا المقال من أوئل المقالات التي تتناول الابتكار الجديد عالمياً، الذي أعلن عنه في الساعات القليلة الماضية صاحب شركات أكس وتيسلا وسبيس أكس. فالشرائح الدماغية التي تترجم ما يفكر به الإنسان إلى خطوات عملية، لم يولد الحديث عنها مع مجيء رجل الأعمال الجنوب افريقي إلى سدة العلم والمال إيلون ماسك، بل كانت حديث البشرية منذ عقود من الزمن، وتحديداً في عقد السبعينيات من القرن الماضي، إبان تصاعد واحتدام التسابق الفضائي بين الولايات المتحدة الأمريكية وغريمها السابق الاتحاد السوفييتي.
البداية طبعاً لم تكن مع شرائح إلكترونية، ولا هواتف محمولة، ولا قدرات تخزينية، أو قطع إلكترونية بحجم الشريحة، قادرة على الاتصال بأجهزة أخرى، البداية حتماً كانت مع أسلاك قطبية تقراً الإشارات المنبعثة من الخلايا الدماغية التي أراد الإنسان آنذاك تحويلها إلى مشاهد وأوامر ورغبات مرئية، أو قابلة للفهم. هذا الربط الدماغي بالآلة لم يحقق النجاح المرجو، بل اقتصر نجاحه على التمكن من تحقيق بعض الأهداف الطبية المحدودة، لكنه لم ينجح في تحقيق ما تحقق اليوم.
اليوم ومع إعلان ماسك رسمياً بزرع شريحة دماغية قادرة على تحويل الأفكار إلى أوامر، فقد تحقق حلم الرجل والبشرية لا محالة.
حلم تفاقم الجدل حوله مع إصابة العالم برمته بوباء كورونا قبل أعوام، ليكثر الحديث آنذاك عن الشرائح الإلكترونية المزروعة تحت جلد الإنسان، باعتبارها جزءاً من المؤامرة الكونية التي من شأنها تسيير البشر والتحكم بهم ورصد تحركاتهم وإخضاعهم لنظام عالمي بوليسي جديد. هذا التفكير على بساطته أو تعقيده، سذاجته أو ذكائه، لم يغادر فكر ماسك، ومعه بقي العمل الدؤوب نحو التميز في الابتكار، وتحويل أحلام البشر إلى حقائق.
وبغض النظر عن سلبية الابتكار من إيجابياته فإن البشرية القادرة على تحويل الأحلام، كالإنترنت والهاتف المحمول والإعلام الاجتماعي وأجيال الاتصالات والصوت والصورة، مطالبة بإيجاد تقنيات محكمة لتزرع القيم والأخلاق في صدور الشعوب، بغض النظر عن عرقها ومشاربها وجنسها، فحرب الإبادة المتواصلة على فلسطين وأهلها، التي تشنها إسرائيل قد كشفت الوجه الحقيقي للاحتلال الصهيوني، وحقيقة بعض دول العالم في التمييز بين شعب وشعب، وعرق وعرق، وقومية وقومية، كما كشفت زيف الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية، وحرية التعبير، والقيم الإنسانية، والحكم الرشيد وحقوق النساء والشفافية ومحاربة الفساد والقائمة لا تنتهي من نظريات الزيف التي فضحت بفعل ازدواجية المعايير.
شريحة القيم كما يجب أن تسمى، يجب أن تعيد برمجة بعض الأدمغة، لتزرع فيها المفاهيم الآدمية والقيم الإنسانية ومنظومة الخير والعيش الكريم، إضافة إلى المنافسة النظيفة وتكاملية البشر وجمالية الحياة وعبثية الحروب وظلامية القتل، وسوداوية التكبر وبشاعة الاستعباد ودناءة الظلم وقباحة الاستعلاء ووقاحة العنصرية.
إن العقل البشري ما بعد غزة بات ومن دون شك بحاجة لتوظيف العلم لإنقاذه لا دماره، ولتطوره لا تخلفه، فغياب الآدمية واضمحلالها إنما يقتل كامل مقومات الحياة وجدواها، ويحول العالم إلى غابة بلا ضوابط وكوكب بلا قوانين، فشرعنة القتل والإبادة وسواد التطرف والتحريض وغياب الحكمة والتعقل، إنما يشجع على تحول مفاهيم العنصرية والكراهية، إلى خطاب مقبول ومسموح، وهذا ما سيؤدي لفناء البشر ودمارها.
إن الشعوب إنما تحصن نفسها عادة بالعلم، والتطور والازدهار، بينما يختار البعض أن يوظف العلم لتشجيع الحروب والمجازر. هؤلاء هم من يستحقون أن تزرع شرائح القيم في أدمغتهم، علها تخلق لهم من عبث أنفسهم نفوساً تعرف أن الله حق. فهل نرى العالم يتغير إيجاباً مع تطور العلم أم يبقى رهينة بعض الطغاة؟ ننتظر ونرى.