غزة- معا- خضرة حمدان- الأصدقاء وقت الشدة، فأصدقاء الشاب إياد الشوا لم يمهلوه الكثير من الوقت تحت الأنقاض فبادروا بيد واحدة على رفع الحجارة والبلوكات الخرسانية علّهم ينقذوا نبضه، وبعد يوم كامل من البحث وجدوه وقد فارق الحياة وملأت رائحته الطيبة المكان فقد استدلوا على مكانه من رائحته العطرة التي لطالما داعبتهم في جلسات السمر وطشات العمر.
اثنان وعشرون عاماً فقط، اختبر الحياة فعشقها، تجول في أرجاء غزة كمسافر يلقي التحية يميناً ويساراً فيقابله الجميع بودٍ يستحقه، وحين غادر بكى الجميع، فغزة منذ مائة وخمسين يوماً وأكثر تبكي بصمت ودون دموع، ولم تفتح بيت عزاء واحد لتؤنس أحزانها.
الغصة التي تركها استشهاد الشاب إياد حاتم الشوا تخترق جدران القلوب ولم تزل تطعن قلب محبيه، والده المريض ووالدته التي لم تودعه حتى، وشقيقه الأكبر قاسم وشقيقاته المكلومات، يخاطبنه من خلف هذا العالم وعبر فضاء أزرق متسائلات " كيف غادرت دون وداع، وبلا عناق واحد يلهم السنين المقبلة دونك؟
من بيت إلى آخر نزحت عائلة الشوا كباقي عائلات قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية المسعورة، ليستقر المقام بالشاب الشهيد إياد في منزل إحدى خالاته برفقة خالته هيا كساب التي هربت من قصف منزلها في حي تل الهوى ومنزل عائلة زوجها في ذات المنطقة هروباً إلى منزل شقيقتها فوق مكتبة زين الدين المشهورة في حي الرمال وسط مدينة غزة، ولم يكد يمض يوم واحد حتى تم قصف البيت من قبل الاحتلال الإسرائيلي ليرتقي إياد وخالته هيا وزوجها م. حسام الحلو وابنهما مصطفى عشرة أعوام في الحادي عشر من نوفمبر العام الماضي.
شقيقته نور تقول أن استشهاد شقيقها إيا كان صدمة قوية، فلم يحلم أحد من عائلته أن إياد المشبع بالحيوية واللطيف والمحب للحياة سيغادرها بهذه السرعة ولم يكد يتم عامه الثاني والعشرين، " لقد كان شديد الأناقة وجميلاً وشغوفاً بالحياة ومحبوباً من جميع أصدقائه" تقول نور الشقيقة المكلومة، عدا عن كونه ملماً بأسرارالتجارة وصالحاً للعمل في كل مهنة وتخصص فقد كان الشهيد على وشك القيام بمشروعه التجاري الخاص قبل أن يرتقي وقبل أن تداهم هذه الحرب غزة وتدمرها بعد أن تجملت في أبهى معمار لها لتبدو بجمال يمنحها طابعاً مميزاً.
"محبٌ للأطفال وشديد الحنان بهم" تقول شقيقته نور حتى أن خوفه عليهم خلال الحرب على غزة كان يدفعه لبذل الكثير لحمايتهم ولكنه غادر الحياة وبقي الأطفال يعانون ويلات الحرب وفراقه، ويتساءلون كل يوم إن كان سيعود.
الحزن يملأ قلب والدته التي لم تشبع منه بعد، ولم تودعه ولو بصورة واحدة قبل استشهاده، فهي في رحلة علاج مرافقة لزوجها المريض بالضفة الغربية، وهناك ستقاوم اشتياقها وحيدة وتملؤها الذكرى حنيناً للشاب ظريف الطول الذي كان شديد الاهتمام بملابسه وعطره، ومتميز بحنانه وبره بها.
الأصدقاء ليسوا أقل حزناً من ذوي الشهداء، فصديقه مصطفى الخضري ينعيه بقوله:" كم يقتلني الشوق إليك يا صديقي ورفيقي، يا مهجةً كانت في الروح تنير ظلامي وأنت الآن شهيدًا صعد إلى جوار ربه، وتركني في ظلمة الدنيا وحيدًا".
ويغالب كريم صديقه الدموع بقوله:" وازاي يا ابو قلب ابيض هنسى وكل التفاصيل صورتك فيها، فاكر هتموت يعني لوحدك ما انا مُت معاك، مش عارف اعيش علقت الواحد بوجودك فغيابك بقع على الايام، ومشيت ع طول من غير ماتقول ولا روحت لحد تسبلي سلام، وواحشني صحيح رغم عتابي وكلامي الصعب بس الاحساس بعدك اصعب وما يتلخصش في اي كلام، مين قال ان الدنيا بتمشي لما الغاليين عنا بتمشي وإن أحنا بنقسى ونبقى تمام، والوقت طبيب بنسينا في ناس بتروح وتغيب لسنين وبتفضل ذكراهم فينا ،بنعيط بعنينا شووية بعدين بنعيط بقلوبنا ونبان جامدين قدام الناس والسيرة ان جات بتبكينا".
عائلة الشوا إحدى العائلات الغزية الأكثر شهرة، وتربطها بباقي عائلات غزة علاقة نسب ممتدة فخالته الشهيدة هيا كساب متزوجة من المهندس الشهيد حسام الحلو، وهي عائلات أصابها من الحرب ما أصاب كافة المواطنين، فقد قصفت منازلهم فوق رؤوسهم ودمرت مشاريعهم التجارية ومركباتهم وعقاراتهم الخاصة والتجارية وعلى رأسها المباني الأثرية عدا عن ارتقاء الآلاف منهم شهداء أطفال ورجال ونساء.
وودعت عائلة الشوا في الحادي عشر من نوفمبر الشهيد إياد وخالته المقربة الشهيدة هيا كساب عن 45 عاماً وقد كانت برفقة زوجها المهندس حسام الحلو 51 عاماُ الذي كان موظفاً متقاعداً وطفلهما الأصغر مصطفى، ليتبق من عائلتهما ابنا وابنة يعانون بصمت في خيام النزوح في رفح جنوبي قطاع غزة.
في عامه الميلادي الجديد أرسل الشهيد إياد تهنئة لنفسه قائلاً:" سنه جديدة من عمري أعانقها اليوم كبرت عام وتجددت أمنياتي لعامٍ آخر استودعتك ربي كل ماتتمناه نفسي سنه حلوه يا أنا"، هذا العام لم يكتمل بفرح لأن الشهيد الذي كان يجهز نفسه للزواج ارتقى من عالم مظلم إلى نور تام.