الخميس: 14/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الميناء المؤقت رأس جسر لما بعده

نشر بتاريخ: 10/03/2024 ( آخر تحديث: 10/03/2024 الساعة: 18:44 )
الميناء المؤقت رأس جسر لما بعده

كتب نبيل عمرو

عملية إدخال المساعدات إلى غزة، اتخذت شكل فيلم هوليوودي، بدا كما لو أنه مشتق من مشاهد الأفلام التي أُنتجت عن الحرب العالمية الثانية.

كان المتفرجون في قاعات السينما يشاهدون ما يوصف عسكرياً بعمليات الإنزال أو الإبرار التي كانت في تلك الحرب تمطر آلاف الجنود خلف الخطوط بينما في حرب غزة تمطر صناديق "ساندويشات".

منذ بداية الحرب والعالم يهتم بإدخال المساعدات الإغاثية أكثر بكثير من اهتمامه بوقف الحرب، وكان هذا بمثابة اختبار ميداني للقدرات، أظهر على مدى أشهر طويلة عجزاً مطبقاً في أمر إدخال ما دون الحد الأدنى من المستلزمات الحياتية لمليونين ونصف المليون آدمي، فُرض على كل فرد منهم أن يقضي نحبه أو أن ينتظر، إمّا بالسيف أو بوسائل أخرى، وكأن القول الشائع "من لم يمت بالسيف مات بغيره"، قيل عن هذه الحرب.

أقامت إسرائيل سداً لا ثغرات فيه يمنع دخول المساعدات التي تكدست وراء المعابر الحدودية بحيث شوهدت آلاف الشاحنات تنتظر إشارة من يد جندي إسرائيلي كي تدخل إلى حيث يتم التفتيش الذي يستغرق ساعات وأحياناً أيام، ما حدا بدول الجوار مصر والأردن إلى إرسال مساعداتهم عبر الطائرات وكانت هذه الوسيلة المبتكرة في بلادنا فاتحة لأن تحذو أمريكا حذوها فترسل "حاملات الساندويشات" ولسوء حظ المنتظرين على الأرض المحروقة أن بعض أطفالهم مات سحقاً تحت الصناديق الهابطة من السماء.

حتى هذه الوسيلة الإبداعية لم تحل المشكلة، فبقي الإسرائيليون على عنادهم يدخلون المساعدات بالقطارة، وبالحجم الذي يحددونه ومقياسهم الوحيد ما يضر أو ينفع خطط الحرب.

أمريكا التي ظهرت في هذه الحكاية بالذات، كأصغر دولة في العالم، ترغب في إيصال مساعدات ولم تستطع، وبعد أن وصلت اللعبة مع إسرائيل، حد استحالة زيادة المسموح به ولو بشاحنة واحدة، قررت معالجة الأمر من البحر، ولكن بما لا يزعج إسرائيل، ما دامت كل الصناديق تخضع لتفتيش منها، وما دامت الثغرة البحرية التي فُتحت في الجدار المغلق تنسجم مع ما كانت تطرحه إسرائيل قبل هذه الحرب، من حلول لحياة المحاصرين، ومنها ما هو أكثر من ميناء طوارئ، بل مدينة عائمة على سطح البحر، بما يعني أن إسرائيل تواصل حصارها براً وبصورة مطلقة وتفتح ثغرة تتحكم منها حتى بالهواء الذي يتنفسه أهل غزة.

الأمريكيون كما أعلن الرئيس بايدن في خطاب حالة الاتحاد يأتون هذه المرة على خلاف المرة السابقة، فبدل حاملات الطائرات العملاقة التي وصلت لدعم إسرائيل وحمايتها من احتمالات اتساع نطاق الحرب بعد موقعة السابع من أكتوبر، وهي في قاع الإحباط والانهيار المعنوي، فها هي تأتي لحماية نتائج الحرب المشتركة بينها وبين إسرائيل والتي ما تزال توصف باليوم التالي.

لا يوجد في السياسات والاستراتيجيات عمل إنساني أو خيري، فهذه مصطلحات تصلح لأن تكون أغلفة لبرامج وأجندات تنطلق من الاعتبارات والحسابات المجردة كما تصلح للتسويق في المنابر والمحافل دون أن يكون لها أي مغزىً يتعدى ذلك.

الميناء المؤقت هو شكل من أشكال الحضور الأمريكي في سيناريوهات ما بعد الحرب، وباللغة العسكرية هو رأس جسر لإنزالات ليس بالضرورة أن تكون جنوداً ودبابات ومدافع، وإذا ما سلّمنا بحقيقة أنها حرب مشتركة عنوانها حماس وهدفها المباشر إنهاء حكمها وسلاحها، فإن كل ما سيأتي في اليوم التالي وما بعده، سيكون مشتركاً ومنسقاً بدقة مع الإسرائيليين دون استبعاد التنسيق ولو من الدرجة الثانية مع غيرهم.

إن أمريكا في حرب غزة، ليست مجرد ميناء مؤقت حتى نحاكمه كما لو أنه مؤامرة، ونطالب أمريكا بالتراجع عنها ولا حتى مجرد وسيط لإنجاز هدنة وتبادل، إنها المهندس الشامل لنفوذها في المنطقة وفي كل العالم ولأذرعها الإقليمية التي تتفق معها على إنهاء حكم حماس في غزة، وتقويض رأس ماله الأساسي السلاح.

إن كل خطوة وكل جملة تقال من البيت الأبيض ومن أقل ديبلوماسي أمريكي لا تقال كرد فعل وإنما كجزئية من كل شامل.

أمريكا التي تتحدث عن ما بعد الحرب، أكثر بكثير مما تتحدث عن الحرب ذاتها، ليست بحاجة إلى إرسال قوات لغزة، فالجنود الإسرائيليون أو مزدوجو الجنسية يكفون ويزيدون، ورؤوس الجسور الأمريكية المنتشرة في جميع جغرافيات الشرق الأوسط، تحتاج إلى استكمال ضروري وهذه المرة في غزة وذلك وفق منطق أن نفوذ الدول وخصوصاً العظمى منها لا يقف عند حد، نسمي ذلك احتلالاً أو عدواناً أو مؤامرة، فكل التسميات جائزة وجوهرها واحد.. النفوذ.

كيف يُواجَه ذلك؟ هذا هو السؤال، والجواب بيد حملة السلاح وليس بيد حملة الأقلام.