بقلم: د. صبري صيدم
يمثل قطاع غزة أحد رموز الصمود والإرادة الفلسطينية في وجه الصعاب، تختزن من خلاله الأرض أمجاداً وآلاماً، في زمن الحروب المستمرة وغبار المحرقة المتواصلة. فالحرب هناك ليست مجرد فصل في تاريخ المنطقة، بل هي واقع يتجلى بألمه ومعاناته في حياة كل فرد في تلك الأرض الطاهرة الصامدة.
الحرب هناك ليست صواريخ ودبابات عابرة للحوم البشر فحسب، بل هي أيضاً حرب نفسية متواصلة متشعبة الأبعاد والآلام، إذ يعيش الأطفال هناك على أطلال الدمار وأشلاء الأحلام المحطمة، يتلمسون الحياة بأيديهم المرهقة، وينظرون إلى السماء بأمل لا يفارق قلوبهم المؤمنة بالحرية والعدالة. لكن أمل اليوم لا يلبث إلا أن يلوثه صدى القصف المتكرر، الذي يخترق أرواحهم البريئة، وينثر الخوف والهلع في كل زاوية من أرجاء المدينة.
ويعاني الأهل في غزة، خاصة الأطفال والنساء، من آثار نفسية مدمرة، تترك أثرا عميقا على مجتمعهم، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن هؤلاء الضحايا إنما يواجهون تحديات نفسية هائلة، نتيجة للهجمات الإسرائيلية المستمرة، وهو ما يتطلب تدخلا فوريا لتقديم الدعم والمساعدة لهم، إذ يشير تقرير منظمة الصحة العالمية الأخير إلى أن 60% من الأطفال في غزة يعانون من اضطرابات نفسية بسبب الحرب المستمرة، وهذا الأمر يعود جزئيا إلى استفحال القصف الإسرائيلي المتكرر، الذي يستهدف السكان المدنيين بشكل متعمد.
ويحكي الأطفال في غزة قصص الحرب بألم وفجيعة، فكل صاروخ يرتطم بالأرض يحمل معه ذكرى مؤلمة، تتراقص في خيالهم المتألق بالأمل.. يتعايشون مع الخوف والقلق يومياً، ويتحملون وطأة الصراع بكل شجاعة وإصرار، في سبيل الحفاظ على أحلامهم المنهكة وآمالهم الدائمة بغدٍ أفضل.
وفي ظل هذا الواقع المرير، تتحدى النساء أيضاً في غزة الصعاب بقوة وإيمان، فهن يعملن من أجل إعمار بيوتهن المدمرة وتربية أطفالهن على حب الحياة والسلام. يتحلين بالصبر والإصرار، محاولات بكل قوة تخطي تحديات المرحلة في واحدة من أصعب المناطق في العالم. وتشير إحصائيات اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن نسبة كبيرة من النساء في غزة يعانين من اضطرابات نفسية بسبب الحرب، ويعزى ذلك جزئيا إلى الضغط النفسي الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي وسياساته القمعية، وخوفهن على أسرهن وعجزهن عن التعايش مع النزوح والحرمان والتشرد والجوع والفقر وضيق ذات اليد.
ويشير التقرير المذكور أعلاه إلى أن 80% من السكان في غزة لا يتلقون الرعاية النفسية اللازمة، وهذا الأمر يعود جزئيا إلى الحصار الإسرائيلي، الذي يمنع دخول المساعدات والموارد الضرورية لتقديم الدعم النفسي والمعنوي والمادي.
وفي خضم هذه المحنة الصعبة تتفاقم معاناة الأهل في رفح تحديداً، خاصة مع إصرار رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني على إدارة ظهره للعالم، والشروع بتنفيذ عمليته العسكرية هناك، حيث تتفاقم مصائب الحرب وكوارثها وما تحمله من ويلات. وتستضيف رفح الآن وحسب تقرير صادر عن مؤسسة الأمم المتحدة للنساء 700 ألف امرأة وفتاة مشردات، يشعر 93% منهن بعدم الأمان داخل مراكز الإيواء وأماكن النزوح، بينما تشعر 80% منهن بالاكتئاب، و66% منهن بعدم القدرة على النوم، وأكثر من 70% من القلق والكوابيس المتزايدة. ويعاني أكثر من نصف النساء اللاتي شملهن تقرير المؤسسة المذكورة، من حالات صحية مختلفة، تتطلب رعاية طبية عاجلة منذ بداية الحرب، مع عدم قدرة 62% منهن على دفع تكاليف الرعاية الطبية اللازمة، بينما عانى 6 من أصل 10 من النساء الحوامل، أو اللواتي حملن منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر من مضاعفات: 95% منهن عانين من التهابات المسالك البولية؛ 80% من فقر الدم؛ 30% من الولادة المبكرة، و50% من اضطرابات ارتفاع ضغط الدم. أما النساء المرضعات فقد اشتكت 72% منهن من تحديات الرضاعة الطبيعية وتلبية الاحتياجات الغذائية للمواليد الجدد.
وعليه فإن التدخل الصحي العاجل لصالح هؤلاء الأطفال والنساء والأمهات، إنما يعتبر حقاً من حقوق الإنسان المسلوبة لتضاف إليه الحاجة الملحة للإسناد النفسي آخذين بعين الاعتبار، أن الدعم النفسي المتاح الذي يقدمه المجتمع الدولي لأطفال ونساء غزة على قلته، يعد جزءا أساسيا من رحلتهم نحو الشفاء والتعافي النفسي. فمن خلال بذل الجهود المشتركة وتقديم الدعم اللازم، يمكن للمجتمع الدولي تخفيف العبء عن كاهلهم ومساعدتهم في التعافي بعد توقف الحرب وتمكينهم من بناء مستقبلهم من جديد، مستقبل ينعمون فيه بالأمان والاستقرار.
لذا يتعين على المجتمع الدولي تحمل مسؤولياته تجاه الأطفال والنساء في غزة، وتقديم الدعم اللازم لتخفيف آثار الحرب النفسية والاجتماعية التي تفرضها إسرائيل عليهم.
يجب عدم التوقف عند إدانة الاعتداءات الإسرائيلية على غزة فحسب، بل أن يتحول العالم بكامل إمكاناته نحو الضغط على إسرائيل لوقف الهجمات على السكان المدنيين، ليضمن تقديم الدعم اللازم لسكان غزة والمساهمة في ولادة جيل قادر على التأقلم مع الصعوبات والعيش بحرية وكرامة.
إن ما تناوله هذا المقال لا يقلل حتماً من وطأة المحرقة وتبعاتها على بقية الشرائح المجتمعية، التي تتقاسم الجرح والمعاناة، وإنما تناول شريحتي الأطفال والنساء كنموذج محدد لهول الجريمة والإبادة بحق الأهل في فلسطين عامة وغزة خاصة.
إن شعاع الأمل، ورغم صخب الدبابات وأزيز الطائرات ومواجع الحرب، إنما يسكن قلوب الأهل في غزة، فمن خلال التضامن الوطني والدولي يبنون جسور الحياة والتفاؤل بمستقبل أفضل. يجتمعون كأسرة واحدة، يساندون بعضهم بكل حب وتضحية، ويؤمنون بقدرتهم على تجاوز التحديات وبناء مجتمع يسوده السلام والعدالة، فهل يريد العالم جيلاً قادراً على مداواة جراحه وإعادة ترميم ما تبقى من حياته، أم يسعى ليرى جيلاً مشحوناً بالحزن والحقد والآلام؟ ننتظر ونرى!
s.saidam@gmail.com