بقلم: د. صبري صيدم
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءا لا يتجزأ من حياة الناس حول العالم، بصورة تفوقت معها على كل التقنيات والوسائط التي عرفتها البشرية منذ ولادتها. ولم تقتصر أهميتها على بعدها الاجتماعي فحسب، بل تجاوزت ذلك لتشمل عوالم السياسة والاقتصاد والثقافة وحتى الحروب والنزاعات.
وتأتي تجربة قطاع غزة اليوم لتسجل أكبر كثافة للنشاط الرقمي، ليس لمن هم خارج القطاع فحسب، بل أيضاً لمن هم محاصرون فيه، وبالقدر الممكن من الإمكانيات على بساطتها. وعليه فإن غزة اليوم هي من أكثر المناطق التي شهدت استخداما مكثفا لوسائل التواصل الاجتماعي، خلال الحروب بصفتها الحرب الأحدث والأكثر بشاعة، حيث لعبت هذه المنصات دورا حيويا في نقل الأحداث والتأثير على الرأي العام الدولي.
وعليه فقد شهدت وسائل الإعلام التقليدية، التي كانت ذات يوم المصدر الرئيسي للأخبار، تراجعاً غير مسبوق في دورها وأثرها، وبذلك نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في تجاوز تلك الوسائل والانتقال بالمعلومة والصوت والصورة وحتى النص، إلى مستوى أعلى من الديناميكية الإعلامية غير المسبوقة، وبذلك شهدت الحرب على غزة استخداماً أعرض لمنصات رقمية متعددة، رغم كثافة الرقابة المفروضة عليها. هذه المنصات سمحت للمواطنين والصحافيين والمراسلين بنقل الصور ومقاطع الفيديو والشهادات الحية مباشرة من الميدان، ما وفر للمشاهدين في جميع أنحاء العالم مشاهد حقيقية غير منقوصة عن الأوضاع على الأرض.
على سبيل المثال، وخلال التصعيد العسكري في أيار/مايو عام 2021، أظهرت تقارير أن هاشتاغات مثل
SaveSheikhJarrah وصلت إلى ملايين التغريدات، ما جذب انتباها عالميا كبيرا. إذ ذكر تقرير لتويتر مثلاً، أن هاشتاغ #GazaUnderAttack قد حظي بأكثر من 2.5 مليون تغريدة في غضون أسبوع واحد فقط، ما يبرز مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تسليط الضوء على الأزمات الإنسانية والسياسية.
ولم تكتفِ وسائط الإعلام الاجتماعي بنقل الأحداث فقط، بل كان لها دور كبير في تكوين وتوجيه الرأي العام الدولي، وتعزيز الحملات الإلكترونية المنظمة والنشاطات الرقمية، وهو ما ساعد في جذب انتباه المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية نحو الانتهاكات والجرائم المرتكبة. كما ساعدت هذه الحملات في زيادة الضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية لاتخاذ مواقف وإجراءات حازمة.
ووفقا لدراسة أجرتها إحدى المؤسسات في عام 2021، فإن 67% من الأمريكيين يتابعون الأخبار المتعلقة بالنزاعات الدولية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يبرز مدى اعتماد الجمهور العالمي على هذه المنصات كمصدر رئيسي للمعلومات. ويعتبر التوثيق وجمع الأدلة أحد أهم محاور الإعلام الاجتماعي في زمن الحرب، خاصة للصور ومقاطع الفيديو التي ينشرها المواطنون والصحافيون، التي من الممكن أن تستخدم كأدلة في تحقيقات حقوق الإنسان وفي المحاكم الدولية، بحيث تمتلك القدرة والدليل على أن تكون حاسمة في تقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك، استخدام منظمة هيومن رايتس ووتش لمقاطع الفيديو والصور الملتقطة من وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيقاتها حول الانتهاكات في غزة، حيث تمكنت المنظمة من توثيق العديد من الحالات باستخدام الأدلة البصرية المنشورة على الإنترنت، ما ساهم في تقديم تقارير موثوقة عن الانتهاكات الحاصلة. إلا أن مشاهد الحرب الكثيفة التي جرى تداولها على مدار الأشهر الثمانية من عمر المحرقة المفروضة على غزة، أدخلت البشرية في عالم من الروتين النفسي، وهو ما دفع الكثيرين نحو العزوف عن مشاهدة مشاهد القتل والدمار والذهاب نحو المواد المتعلقة بالمعاناة الشخصية للناس، وما ارتبط بها أحياناً من تحدٍ عظيم، يقود نحو إضفاء خفة الروح والدعابة على المواد المنشورة، إضافة إلى الاهتمام بالمواقع المهمة بحشد التمويل المادي لمساعدة الغزيين في إدارة شؤونهم وحلهم وترحالهم. لكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الحروب يحمل بعض التحديات والمخاطر، فمن أبرز هذه التحديات انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، إذ تتزايد في زمن الحروب محاولات نشر الأخبار الكاذبة، لتضليل الجمهور، أو للتحريض على العنف. وفقا لتقرير صادر عن معهد رويترز لدراسة الصحافة، فإن 58% من المستخدمين يرون أن وسائل التواصل الاجتماعي تحتوي على معلومات غير موثوقة خلال الأزمات، بالإضافة إلى ذلك، هناك خطر استغلال هذه المنصات لأغراض دعائية من قبل الأطراف المتنازعة، ما يزيد من تعقيد الصورة العامة للنزاع ويؤثر سلبا على الجهود الرامية لوقف النار وتحقيق الهدوء المرجو.
أمام ما ذكر فإن دور وسائل التواصل الاجتماعي محوري في الحروب والنزاعات المعاصرة، خاصة في حالة الحرب على غزة إذ ساهمت وتساهم هذه المنصات في نقل الأحداث في الزمن الفعلي، وتشكيل الرأي العام الدولي، وتوثيق الانتهاكات. ومع ذلك، يجب التعامل بحذر مع التحديات والمخاطر المرتبطة بها مثل انتشار الأخبار الزائفة والاستخدام الدعائي السلبي والحرب النفسية، وعليه لا بد من نشر الوعي ولفت الأنظار لضرورة التدقيق في حقائق الأمور ودقائقها. فهل تساهم تلك الحقائق والمواد المؤرشفة والأدلة الإلكترونية في وقف الحرب ومحاكمة المجرمين؟ ننتظر ونرى!