بقلم: د. صبري صيدم
كثيرة هي المصطلحات التي ولدت بفعل المحرقة المفروضة على أهلنا وشعبنا في فلسطين قاطبة وفي قطاع غزة خاصة، لعل أهمها على الإطلاق ما اصطلح على تسميته باليوم التالي، وهو ما يرتبط بطبيعة العلاقة التي ستربط إسرائيل بقطاع غزة مستقبلاً، إضافة إلى طبيعة علاقة الفلسطينيين أنفسهم مع القطاع المكلوم، بعد أن تتوقف الحرب المجنونة بما حملته من كوارث يندى لها جبين البشرية.
وقد لاحظ الكثيرون أن الحديث عن اليوم التالي، إنما استغل بنية شراء الوقت من قبل نتنياهو بحثا عن سبيل لإطالة أمد الحرب وإتمام خططه العسكرية، التي لم يفصح عن الكثير منها، رغم ما سرب لوسائل الإعلام هنا وهناك. وعلى الرغم من حديث الإدارة الأمريكية المتكرر عن رفضها لإعادة احتلال قطاع غزة، أو اقتطاع أجزاء منه، أو بقاء قوات عسكرية إسرائيلية فيه، أو تهجير أهله، فإن حقيقة ما أخفاه نتنياهو هو أنه يريد أن ينفذ كل ما ادعت أمريكا رفضها له، في تكرار لتاريخ مؤلم ادعت فيه الدول الاستعمارية ذات يوم وتحديداً مطلع القرن الماضي، رفضها للبقاء في الدول التي احتلتها لتراها تحتل وتبطش وتقتل وتسرق وتصادر أحلام شعوبٍ بأكملها.
نتنياهو الثعلب الماكر والمجبول بالمكر والمراوغة، يقاتل عقارب الساعة لتحويل قطاع غزة إلى محمية أمنية يسعى فيه إلى التهجير الممنهج لسكانه بغرض التمكن من فرض الحكم العسكري الكامل عليه، واستعادة الاستيطان فيه متسلحاً بحجج سياسية مزعومة، وادعاءات تلمودية مصطنعة، بغرض إقناع العالم بأحقية الوجود التاريخي للصهاينة على الأرض الفلسطينية مدعماً بالزعم المتواصل بالبحث عن الأمن والخلاص من الصواريخ المقبلة من غزة.
وعليه فإن مفهوم إدارة نتنياهو لليوم التالي، تقوم على أرضية تسريبات مزعومة حول نزوات الرجل، والاستفادة المطبقة من موقف الإدارة الأمريكية التي تعرف تماما ما يختلج في صدر حليفها، وتوظيفه للمراوغة الأمريكية التي تعرف حق المعرفة أن لا وجود لأي مصطلح جدي يرتبط باليوم التالي.
المستقبل وحسب نتنياهو لن يكون إلا بإرادته، وهو الذي يبحث عن بقائه في السلطة، وعن تحقيق انتصار على الفلسطينيين، ليستطيع من خلاله أن يروج للمجتمع الإسرائيلي بأنه هو الذي انتصر وهو الذي أحدث فارقاً مهماً في مسيرة التاريخ بترحيل الفلسطينيين وإنهاء طموحهم وأحلامهم ورغبتهم الملحة بالحرية والاستقلال.
اليوم التالي لا يقتصر فقط على قطاع غزة، وإنما يمتد ليشمل الضفة الغربية عبر إزاحة أكبر عدد من الفلسطينيين من خلال تعزيز الاستيطان، وخنق سبل الحياة، وخفض معدلات الحصص المائية المتاحة لسكان الضفة الغربية، والتقليل لاحقاً من حصص الكهرباء، وتهجير المزيد من المضارب البدوية والمربعات السكنية العديدة، لتكون إسرائيل قد وصلت إلى حد التشديد الخانق على الفلسطينيين، وحسب اعتقاد يمين الشر في تل أبيب وشركائهم، بأن الخنق سيدفع الفلسطينيين إلى الهجرة طوعا خارج البلاد.
وعليه فإن ما يريده العالم من اليوم التالي ليس كما أراده نتنياهو من هذا اليوم مع انه أراد استمرار الحديث حوله في إطار السياق العالمي بغية إدخال العالم في متاهة المتاهات، ووضعه في دائرة الشك والظنون ووسط محاولات أمريكية كاذبة وادعاءات باطلة هدفها امتصاص صدمة الفلسطينيين وتجريعهم مكونات الكارثة المقبلة فصلاً فصلاً.
نتنياهو في تجربة غزة لا يبحث على الإطلاق عن سبيل لدخول التاريخ، باعتباره قد انتصر على الفلسطينيين فحسب، وإنما باعتباره شخصية تفوقت على غولدا مائير وبن غوريون بما حققته من إنجازات على دماء الفلسطينيين ومعاناتهم، فيستحق حسب رغبته لقب إمبراطور تل أبيب.
ولعل السجال الدائر في موضوع نقص السلاح الأمريكي لإسرائيل، وما خرج فعلياً إلى الملأ، إنما جاء بغرض تبادل الأدوار وإقناع العالم بالنزاهة المزعومة للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث تستمر من طرفها بممارسة التضليل والمراوغة المرجوة، حتى تقلب إسرائيل حسابات التاريخ والجغرافيا في الأشهر القليلة المقبلة حسب اعتقادها.
اليوم الحالي واليوم التالي يشكلان مسيرة واضحة ومترابطة ومجترة من ماض استعماري أليم وبفارق قرن تقريباً، قرن من التسييد الكاذب والمخادع لمفاهيم الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها.. فهل تنجح إسرائيل ومعها ربيبتها أمريكا بفرض اليوم التالي أم يكسرهما اليوم الحالي بكل تفاصيله؟ الجواب يحتاج إلى جهد خارق يطول الحديث حوله… ننتظر ونرى!