بقلم: د. صبري صيدم
هناك في باريس عاصمة أولمبياد 2024 تصاعد الحديث عن العنصرية، خاصة مع خروج قضية الملاكمة الجزائرية إيمان خليف عن كل السياقات الأخلاقية، إثر محاولة اتهامها بأنها تحمل جينات ذكرية منحتها تفوقاً ملحوظاً على منافستها الإيطالية أنجلا كاريني، التي انسحبت من حلبة المنافسة بعد 46 ثانية من بدء الجولة الأولى من النزال. كاريني التي رفضت مصافحة منافستها، إنما اجهشت بالبكاء مشتكية من هول اللكمات وضراوتها ومتهمة خليف بأنها رجل في ملابس امرأة.
دموع كاريني وتثوير الإعلام العنصري للقصة، إنما حرف التركيز عن الرياضة باتجاه التهم والتهم المضادة، فيما اعتقد بأن الخلفية التحريضية باتت أقرب إلى العنصرية تجاه الرياضي العربي المسلم، وليس الخلاف الرياضي البحت. تفاعلات قضية خليف وبعد الحملة المضادة التي أطلقها المتعاطفون معها حولت خليف إلى نجمة رياضية شدت أنظار الملايين، وخطفت قلوبهم، ليس فقط لرفض مؤازريها لعنصرية الأولمبياد فحسب، بل حباً بالجزائر والجزائريين الذين أمتعونا تاريخياً بألقهم الرياضي وأكرموا فلسطين بجزيل الحب والانتماء.
عنصرية الرياضة شحنت قولاً وفعلاً بعنصرية السياسيين والعسكريين، خاصة أولئك الذين قتلوا، حسب التقديرات الأولية 40 ألفاً من الفلسطينيين معظمهم من النساء والأطفال ورحلوا 2 مليون إنسان بعد أن أبادوا قطاع غزة عن بكرة أبيه، بشراً وحجراً وشجراً، وأطلقوا العنان لذاتهم وحيواناتهم لاغتصاب الأسرى الفلسطينيين وحرموهم الماء والغذاء والطبابة. أولئك دمروا الكنائس والمساجد والمدارس والجامعات والمشافي والمنشآت الرياضة، بل ذهبوا لما هو أبعد من ذلك عبر التفاخر بتوقيع بعض رياضييهم الذين قيل إن بعضاً منهم يشارك في أولمبياد باريس 2024، على صواريخ اطلقها جيشهم على غزة فتسببت بالكوارث المذكورة آنفاً، إلا أن مكافأة إسرائيل كما يقول البعض، عبر السماح لها بالمشاركة بالأولمبياد، بينما منعت دول أخرى إنما عززت أيضاً روح العنصرية والرفض العالمي لمشاركة الرياضيين الإسرائيليين على خلفية فعائل دولتهم وقادتهم وجيشهم وعتادهم وتصرفات بعضهم.
وقد ساهم اشتعال الشارع البريطاني على خليفة مقتل ثلاثة من الأطفال القصّر، واندلاع مواجهات عرقية هناك، إلى إذكاء نار العنصرية المتفاقمة حول العالم، وفي حلبات الرياضة على اختلافها خاصة في إطار الأولمبياد، لكن الشرارة التي عززت نار الصراع الأخلاقي العالمي وخروج المشهد الآدمي عن كل الضوابط والأعراف، إنما جاءت مع اغتيال الجهد الدولي باتجاه إنهاء المحرقة في غزة والحرب على فلسطين، ليلجأ ثعلب السياسة، نتنياهو إلى تنفيذ الاغتيالين الكبيرين في إيران ولبنان، ليغتال معهما جهود الكون في لجم الحرب على فلسطين ومفاعيلها الدنيئة، وليفتح بوابة جهنم من جديد.
ورغم بشاعة المشهد واضمحلاله، فإن جهابذة العم سام بلينكن وكيربي وسوليفان تناسوا جهدهم المزعوم بوقف الحرب والصفقة المنشودة وعادوا للاسطوانة المشروخة ذاتها بالحديث عن التزامهم بأمن إسرائيل، فحركوا المدمرات والغواصات والطائرات والأساطيل والأقمار الصناعية وصنوف العدة والعتاد لدق طبول الحرب، لينزلقوا في مربع نتنياهو المتمركز حول مواجهة إيران لا مهادنتها، ورفض إعادة إحياء الاتفاق النووي السابق بين واشنطن وطهران.
وهنا عدنا للحذر والترقب بانتظار رد إيراني قد يأتي اليوم أو غداً أو بعد غد، رد تأرجح مع كل تصريح صحافي من هنا أو هناك، وفي خضم تلك التصريحات تصاعد الضجيج الناجم عن طبول الحرب، كل يدقها على طريقته، ليعود الشرق الأوسط الذي ما عرف منذ قرون عقداً واحداً هادئاً في حياته، إلى مربع الويلات والحروب والمصائب.
أبطال المشهد من كل الأطراف دخلوا إذن معركة عض الأصابع في مسرحية سريالية بائسة تعود بالذاكرة إلى أفلام و《همبكات》 الحرب الباردة، بينما يتراكض الجميع خلف التبريد، تبريد الجبهات والمواقف وحتى السيناريوهات، كل يريد أن يخرج منتصراً، حافظاً لماء الوجه وظافراً بإنجاز مزعوم تجعله فوق الجميع.
معادلة صعبة لا تحسمها إلا حروب طويلة، حارقة، ماحقة، لا تنتج إلا المزيد من الويلات. حالة الشد هذه إنما عززت من الزيت المنسكب على النار وسمحت لوزير مالية الاحتلال الصهيوني بتسلئيل سموتريتش ليدلي بدلوه حول أحقية إسرائيل بقتل مليوني فلسطيني في غزة دونما أن يهتز للعالم العربي الرسمي والعالم برمته رمشا أو جفنا وبصورة تجعلك تتساءل كيف سيتعامل العالم مع الفلسطينيين، لو أنهم هم من فعلوا ما فعلته إسرائيل على مدار الشهور العشر الماضية تحديداً، وسيل تصريحاتها وقوانينها وقرارتها العسكرية؟ هل سيبقى صامتاً؟ وهل سيستقبل ساستنا بالسجاد الأحمر؟ وهل سيستمر بتوفير الدعم السياسي والعسكري واللوجستي لفلسطين؟ وهل سيسمح للفلسطينيين بحضور الأولمبياد؟
كفى يا عالم مهزلة، كفى يا بشر قتلاً، كفى يا أمم دماً، وكفى يا إسرائيل استعلاءً وغطرسة وتجبراً وصلفاً! فالتبريد والتسخين لم يعودا خاصية فيزيائية صرفة فحسب بل نهجاً آدمياً مملاً، ُفضحت فصوله، وانكشفت ألاعيبه، وبانت خفاياه! فهل تستفيق البشرية؟ أم تستمر نشوة القتل على حساب الحياة والعدالة؟ ننتظر ونرى!