المتوكل طه
اللغةُ قميصٌ مُعَلَّقٌ ماتَ صاحبُه بداخله،وتمتلئُ عبابُه بالدخان والغبار والروائح التي تزكم الأنوف،ويتغيّرُ لونه..ويكاد يبلى.
لا أحد له علاقة بهذا الثوب،على ما يبدو،بل إن الجميع استمرأ أن يحرّك لسانه وشفتيه ليوصل ما يريد بأضعف الصيغ المبتذلة الركيكة.حتى إن النخبة باتت غريبة عن أصول اللغة،فتمعن في تحطيمها وتكسيرها ولعن أجدادها،كأنها ملوّثة،صار مَن يردّ الاعتبار إليها متقعّراً هجيناً مضحكاً،يصلح للنوادر والفكاهة والمسرحيات السوقية المكرورة.
ومع إيماننا بأن اللغة كائن حيّ يتطور،ويحتمل،بمرونة ولياقة عالية، تتمتع بها لغتنا أصلاً،فإنها تحمل ما تكثّف من مفردات ومصطلحات وأخطاء شائعة في تلافيفها،إلا أن ما يجري استباحة واغتصاب،إذا لم يكن جهلاً وعجزاً ورداءة مستوى متدنٍ سخيف.
والأصل في الشخصية وصاحب الهوية أن يعي أنه هو لغته،ولا شيء خارجها،فمن يجهل حروفها وقواعدها يجهل كل شيء،ولا تبرير أو مبرّر لأحد،خاصة لمناهج التدريس التي يُؤَوِّب بعضها في أوديةٍ بعيدةٍ عن أرضنا وتاريخنا وروحنا.
وقد يكون مفاجئاً أن ننادي بقانونٍ لحماية اللغة من الانتهاك والتطبيش والمجانية والعدميّة،التي يمارسها بخفةٍ أولئك المسؤولون،الذين لا يعرفون ما يهرفون.
وربما ثمة عزاء بأننا لم نعد بحاجة إلى اللغة أصلاً،فكل شيء ناتئ ومفضوح وواضح جارح!فلماذا نحرك أفواهنا ونجهش بالكلام؟ثم ما فائدة ذلك؟
إن اللغة من أعظم شعائر الأُمّة التي تتميز بها.واللغة العربية وعاءٌ ثقافي وإطار قومي وشعار الإسلام وأهله،وهي سياج حضاري،ولسان الدّين الحنيف،ولسان هذه الأُمّة،المعبّر عن الذات والثقافة العربية الشاملة،وهي آصرة متينة تربط جميع الناطقين بها برباط متين.وعلى الرغم من التاريخ المشرّف للغة الضاد المُقدّسة،إلا أنها تراجعت عن موقع القيادة والريادة،بل تعثّرت خطاها وأضحت في مأزق ومحنة،واعترتنا لكنة هجينة،وأصاب لساننا عوج لا يستقيم معه بيان.من هنا تبرز أهمية تأسيس جمعية لحماية اللغة العربية،في فلسطين،لتكون حلقة الاتصال وهمزة الوصل بين كافة المؤسسات والهيئات وملتقى الأفراد لتثير الاهتمام بقضايانا الوطنية والعربية،وتحفّز الهمم وتنبّه الجميع إلى مكمن الداء ومواطن الخلل.
ولغتنا العربية،في بلادنا،تواجه العديد من التحديات والمشكلات،وعلى رأسها ما تفعله دولة الاحتلال بشكل استراتيجي وحاسم،على كل الصعد،ضد اللغة والثقافة والهوية،عداك عن إهمال أهل الضاد لها،وإلى مزاحمة اللغات الأجنبية لها في عقر دارها.واستناداً إلى هذه الحقائق وبناءً عليه؛أُطالب المسؤولين،فورا،بالإعلان عن مؤسسة لحماية اللغة العربية في فلسطين،لتتصدى إلى إجراءات مُعادية وحاسمة تستهدف اللغة والجغرافيا والشخصية الوطنية..إضافة إلى ضرورة إنهاض وتدعيم مجمع اللغة العربية في فلسطين.
وإن كان ثمة ضرورة للكلام،فثمة لغة جديدة قديمة،هي اللغة المُطعَّمة بالكلمات الأجنبية،التي تُبرز صاحبها باعتباره "ابن ذوات ومتعلّم وينتمي لطبقة محترمة"،ويستحق أن يتسلّم أرفع المواقع وأعلى المناصب.وأما الذين يفهمون أسرار لغتهم فعليهم اللعنة إلى يوم الدين،أو يجب إزاحتهم وإلقاؤهم في حاويات التاريخ البالي.
والذي لا يحترم لسانه السليم لا يحترم نفسه أو من يخاطبهم،وبالتالي عليه أن يخرس ليس إلا،والسلامة تقوم على قدمين هما:سلامة الموقف والحقيقة،وسلامة اللغة بتراكيبها وقواعدها.فأين نحن من ذلك؟ إنّ كلّ شيء في فلسطين يتعرّض لمجزرة ومحرقة ومقتلة؛من غزة إلى القدس إلى اللغة.
وينبغي ألا نتكلم بعد اليوم،هل تعلمون لماذا؟لأن للكلام ضريبة باهظة،تلقي بأصحابها على النطع أو خلف الرمال أو تحت مطارق السؤال.
وعليه،أُفرّق بين بعض الرذاذ اللغوي الذي يخرج منا،كرهاً وضرورة، وبين تلك الدادائية التي تحاول أن تردّ،بالتفكيك والتحطيم والغرابة،على كل هذا المشهد الكابي الذي يُحطم ويُغرب ويُفكّك.
وإذا كان من مَخْرَجٍ من هذه المرحلة،فلا أجد أناقة السوريالية قد حان أوانها،وأننا ما زلنا في الدرك الأسفل من الصراخ المكتوم،الذي يتفلّت كلاماً عجباً،لا معنى له ولاضرورة ولا دلالة أو سياق،سوى دلالة الخراب العميم الذي يُلقي بظلاله السوداء على الشفاه،فنسكت عند الكلام المباح..وغير المباح.
***
ويعود المثقف يلثغ بغبار مُغثٍ،فتتقشّر شفتاه يباساً،وتُعشي عيونه حُبيبات دقيقة هائشة طائشة تتفشّى..ونوافذ الهيولا تُنبئ بذرّات تتطاير،فتحتشد وتتقافز،على غير هدى،كأنها مضطربة تبحث عن لامكان.
ويلثغ بالرماد،فتحمرّ جفونه وتتمزّع جلدة وجهه،وتتّخذ الأخاديد الشُّعيرية طريقها،كيفما اتفق،على طلّته،من جبينه إلى صدغيه فخديْه فذقنه!
ويلثغ بالرمل المذرور الأبيض الرمادي،المطحون المنفوخ الباحث عمّا يعلق به،خفيفاً هائماً مقذوفاً من غموض إلى هُوٍّ مُشْرع للفراغ اللامحدود.
كان يلثغ بالحليب المتقاطر الدافئ العسلي السلس العذب،يتلمّظ به وتمتلئ عروقه به،فتتغشّاه السخونة الماتعة والرضا والاطمئنان.
وكان يلثغ بالماء السلسبيل البارد الهانئ الرقراق،فيمتلئ فمه بالرطوبة والانطلاق،ويدبّ النحل النائم شيئاً فشيئاً في ضلوعه،فتمرع خلاياه بالعشب الريّان والزهر.
***
لقد عاد إلى ما قبل الفطام،فلا يجد ثدياً،ويناغي الماء..فلا قطرة تبلّ توهّج لسانه الناشف..ويُلحف بالبكاء،لعل الهدهدة الرحيمة تمرجحه ليُتَأتئَ مع الملائكة،على أحواضها البلورية في الجنان.
لقد عاد إلى هذا المشهد المتحطّم،فرأى أن تلك الأشهر الأولى،التي لثغ فيها،كانت تكفيه إجابة يطلبها؛حليباً رؤوماً أبيض كأحلامه المبهمة،أو ماءً يكرعه،على مَهَل،فيغفو بين الترويدة وسفر الغفوة القصير. والآن،لا لغة ينطق بها ليفهمها هؤلاء الذين احدودبوا أو انكسروا،ولم يتبق في أفواههم حروف أو لغات،ولم يعد لآذانهم مسارب تحمل همهمات الأرصفة والعراة أو صرخاتهم أو نداءاتهم.
لهذا،عاد ليلثغ بحرف واحد أو اثنين كانا كافيين ليأكل ويشرب وينام، مطمئناً،تحفّه الأغاني وكركرة السهرات واللمّات الهانئة..البعيدة.
والآن،ما زال يلثغ صامتاً،يمضغ حروفه كلّها،ويجترّها كالنعجة أو الناقة،وكلّه يقين بلا جدوى الكلام،أو حتى أن يفتح فمه لشيء،غير أن يحشوه ببعض لُقيمات مغمّسة بالقطران والفجائع لبدنه المسموم.
والعزاء للصوفيّه وأهلها الأنقياء المخلَصين،الذين بلغوا الكشف،وأيقنوا أن للحرف قوةً كافية لتدير الجبال،وتقلب الصحارى،وتفتح أبواب السماء لليلهم الطاهر المضيء،لتظل النيرفانا سُكَّر الصلاة وعطر الغياب الشفيف.