الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

يقظة المسجد الساخنة

نشر بتاريخ: 21/08/2024 ( آخر تحديث: 21/08/2024 الساعة: 20:39 )
يقظة المسجد الساخنة

في ذكرى إحراق الأقصى؛آب 1969

المتوكل طه

***

كان فلاسفةُ النوم قد اطمأنّوا..وظنّوا أنّ الصحوةَ مستحيلة!لكنّهم فوجئوا بأنّ التلّة التي يقفون فوقها هي فوّهة بركان،بدأ يتململ في الأعماق،وها هو ينعف نثار يقظته الساخنة.

***

السروة على حالها باسقة خضراء،تتمايل من نشوة الهبوب الرَّخيّ،والسروة تختزن الأعشاش، وتحفظ أسرار الطيور.

والسروةُ قد أَلِفَتْ تصادي النائحات اللواتي يَبْغُمْن على أفنان الهزيع،وتهيّئ لهنّ دموع الندى.

والسروة التي استشاطت الحرائق من حولها..بقيت يانعةً نابضةً مُمرعة،لكنّ الأعشاش التي تساقطت أو هجرت أغصانها قد جعلتها تتخشّب،وتفقد نضارتها الفارعة!لكنّ مؤمناً سيتوضّأ تحتها لتعود طيورها المهاجرة.

***

ثمّة نَسبٌ بين المُصلّين والشجر.

***

تمرّ من تحت أقواس البيوت القديمة،وتمشي على درب الآلام،وتُعرّج على فرن السمسم والجمر الناضج،وتصلّي على مصاطب النّارنج،وتسير حيث الأنبياء والأولياء،وترفع عينيك لترى ورود الشرفات الذي يتدلّى مثل القناديل،فترى غيلاناً صغيرةً،تقدح بعيونها الناريّة،وتفجعك الأشياء.

***

كلّما شقّوا فتحةً بين مداميك حجاره حائط البُراق لِيدسّوا أمانيهم الخائبة وتعاويذهم الخرافية،انطبقت الحجارةُ على بعضها،وتساقط الوَهْمُ تحت الأقدام،وتأكدوا أنّ خريفَ التزوير يُذَرّي أوراقَ الفجور.

***

يكرهون حروفنا ومياهنا وشعيرنا وغيومنا وأحلامنا وبيوتنا وشجرنا وغناءنا،ونحن نكره ما يفعلون.

***

أرى عيوناً صغيرة ترى أحلاماً كبيرة،تقول:ستذهب الأيام الخشنة،وليالي الدم المحروق،وسيحلّ الحصاد الذهبيّ،ويبتسمُ النورُ في الظلام.

***

كلُّ شيءٍ يبدو عادياً وهادئاً،لولا الأشباح المُضمرة في العتمة.

***

أيها الجنود!مهما كان البسطار سميكاً،فسيهترئ..وسيبدأ أَلَمُ المسامير قريباً.

أيها الجنود!أيتها الكائنات المُحطّمة!لا شيء لديكم هنا لتثبتوه.

أيها الجنود!العالَمُ سيكون أفضل من دونكم.

أيها الجنود!لقد نظرتم إلى السماء من جهةٍ خاطئة.

أيها الجنود!لقد سقطتم في امتحان الإنسانيّة،وصرتم تَصلُحون للهزيمة.

أيها الجنود!كيف تُحاربون مَن يعتقد أنّه على حقّ،ولا تهمّه الخسارة،لأنه لن يخسر غير قيوده؟!

***

قبل أن تقولوا"إنّ القدس عاصمتكم"عليكم أن تفتحوا بالسواطير صدور الملايين لتخلعوا المدينةَ منها،وأن تُغلقوا أرحامَ النساء،وأن تهجّروا الطيورَ والفراشات،وأن تذبحوا الأغاني،وتطلقوا النارَ على النهار،وأن تطحنوا كلّ حجارة الطرقات والبيوت والمعابد وتنعفوها في المحيطات،وأن تحرقوا كلّ الكتب،وتخنقوا الحكايات،وأن تُنزِلوا السيّدَ المسيح من السماء وتصلبوه، وأن تصطادوا البُراق،وتهضموا الجبالَ في بطونكم،وتنفوا الزيتون من الأرض،وأن تمنعوا الشمسَ من الشروق،لأنّها لا تُشرق إلّا من أجل القدس،التي هي لنا،من قبل آدم وإلى ما بعد النشور.

***

من الخطأ أن تخاف من الأشخاص الخطأ.

***

المسجدُ الجريحُ يُؤلِمُ الوطنَ كاملاً.

***

لم تعد نساء "أواريس" يَحبَلْنَ من هَوْلِ ما شاهدنَ من فظائعَ مريرةٍ في الحرب،لكنَّ امرأةً من القدس بَقَرَتْ بطن "أبوفيس" المحتلّ،وولدت "أتحمس" الذي انتصر وغَنم السفن والفؤوس النحاسية والكثير من الزيوت والعسل،وضربت بحذاء "خروتشوف" على المنصّة العالمية.وها هي بابل تعود إلى حدائقها المعلّقة وشمعتها البيضاء،مثلما يركب الفندلاوي على حصانه ويرفع رايته في إيبلا الشام،وسيصل عمّا قريب إلى الكرنك،مروراً بأرضٍ حُرّةٍ تتوسّطها القبّةُ الباذخة.

***

هذه الدموع البيضاء من الغيوم السوداء.ولا بأس في أن يبكي الرجال..فرحاً!فقد سطعت كلُّ الحجارة فورَ أنْ قبَّلَتها الأقدام أو لامستها جِباهُ الشاكرين الساجدين، والسماءُ صافيةٌ..على غير عادتها.

***

ليعلموا أننا لم نتحاسب مع جنوننا..بعد!

***

ويبقى الأقصى ضحكةَ فاطمة وبُشرى مريم،ووجوهَ الضوء التي أزالت الصدأ عن حجارة الخلود،وسيبقى تجربةَ العارفين الذين وصلوا إلى مجد النور،ليُتمّموا الوَصْلَ كاملاً،ولو بعد حين!فما زالوا في أرض السماء،وما فتئت تعازيمهم تُنبئ بالكَشْف.. ***

دخلوا الأبواب،وأطفأوا النار،وها هم يدقّون بصلواتهم وصرخاتهم وغضبهم أستارَ العمى المعدنيّة،إلى أن زالت.وفتحو أبواب الأقصى من جديد،ودخلوا مكبّرين باكين مبتهجين،وقد تراءت لهم المصاطب والنارنج يُظلّلها،دون بواباتٍ إلكترونيةٍ وكاميرات،وقد جاء الحقّ وزهق الباطل،وما يُبدئ الباطلُ وما يُعيد.

***

لم يكن غير مصوِّرٍ صحافيٍّ أجنبي،لكنَّ جندياً هجم عليه وحطّم الكاميرا وانهال عليه من دون رحمة!لقد رآه وهو يلتقط صورةً للحَمام الذي حطّ على أكتاف المرابطين عندما وقفوا للصلاة.

***

لسنا على جزيرة العار،التي قيّدوا على صخرتها الشباب "العبيد"،الذين وُلِدوا تحت برج الأفعى،وساقوهم عُراةً إلى العالَم الجديد،فصاروا ملحَ البحر،بعد أن كان لهم سرير الرمل أراجيح وأعذاق،وأمست الأمواجُ أكفانَهم،وضجّ الأزرقُ المخيف بصوت جثثهم وبالسلاسل الصدئة.ولسنا خِرافاً بلا قرون،رغم أنّكم مثل أجدادكم المُذنِبين، تقفون خلف أسلحتكم المَذخّرة،وتتمنطقون بالقنابل الغاضبة..لكنّ شيئاً ما يتمسّك بنا نحن المُلَوَّنين،هو الحياة البيضاء،لمواجهة معرفتكم السوداء العنصرية البغيضة، التي ورثتموها من حفلات التطهير العرقيّ وسلخ فروات الرؤوس واغتصاب القاصرات.

***

نحن التاريخ والتحوّل الصبور،والتناغم الهادئ بين النجوم.ونحن العدلُ الذيسيغلب القتَلَة،والأشياءَ التي تُسمّم السلامَ في أرضِ السلام.

***

الحربُ التي تُسلِّم أفضلَ أولادها للمقاصل،هي التي ثقبت قلبَ أُمّهم بالسّهم المكسور..ومع هذا لم يوقِفوا طبولَ القتال،رغم اللحن المشؤوم الذي يطاردهم، وهم يقترفون المذابح بحقّ الطيور والرُّضّع،وكانوا أكثر من شهوانيين مزّقوا بطون الصغيرات..وقهقهوا!لهذا سيتيهون مرّة أخرى في سراب القحط،وسنبقى هنا تماثيل نور تنتظر مَن عاد إلى صوابه،لنسهر معاً على الأبواب،ننتظر السلامَ والغيوم الملوّنة.

***

يُطلق البرقَ من كفّه،وتمشي إليه المتاريس،وتقاتل معه الملائكة،ويُطرّزه الرّصاص! إنه خبز حياتنا الدّامي،وكأس الخلاص المُرّ،وفرحتنا الخانقة،وما تبقّى لنا.نُطلق اسمه على الشوارع التي لم يمشِ عليها،ونرفع مُلْصَقَه للشمس،لعلها تشرق،غير مرّة،في النهار.وما فتئ يتكوّر في الأرحام،لنطبع على وجهه قُبْلتنا الحارقة.ونحلم لأن يكون زفافه على الأرض.

***

كلّما مزّقوا الوردة وخلعوا أوراقها..يجمح الطوفان ويثور البركان ويجفل البحر.وعندما يُمْعِنون في تعريتها..تزدهر السخونة في الأبدان،وتلتفّ السنابل على هلال المنجل، وتحمل الأرضُ بالجدائل الميّاسة.وحينما يصل النّصل إلى الرّحيق،يكون الجَنين قد اكتمل،وأضاء الكون من جديد.

***

البعض مدفونٌ داخل جسده،ويكابر أنه حيّ!

***

من الصعب أن تكون شجاعاً..إذا كنتَ وحدك فالجماعة هي الإشارة الخاصة التي يحتاجها الناس لكي يؤمنوا بقوّتهم الجسورة.

***

سيفرِدُ حفيدُ أبي حامد الغزاليّ بساطَه، ويتربّع أمام تلاميذه،وسيطلب منهم أن يُنصتوا جيداً ليستمعوا إلى الصلاة الممتدة..وإلى قعقعة الأسلحة التي يذخِّرها جنودٌ غرباء..وإلى ارتطام الصدور بالدخان وتصادم الأكتاف بالحديد..وإلى تكبيراتٍ عمّت المكان..وإلى صبيّةٍ تزوّجت عشرين رصاصة.

***

العيون الملهوفة الجافّة تتفقّد السماءَ،وتشخص إلى ربّ البيت؛أنتَ السنَدُ الحارسُ أيّها العالي المُتعال!ليس لدينا سواك!أنواركَ تملأ المكانَ والزمانَ،إلهنا..إلهنا..مَن سواك..ومَن سواك!

***

والطيور الغريبةُ في القدس..لن تُجيد الغِناء!