بقلم: د. صبري صيدم
شبع الشعب الفلسطيني على مدار العقود الطويلة من عمر القضية الفلسطينية، مواقف شجب واستنكار ظهرت في ملايين المناسبات، وبصورة مملة متكررة تتردد على ألسنة الزعماء والقادة حول العالم وفي كل مرة يتعرض فيها الشعب الفلسطيني لمأساة أو مجزرة جديدة. وتُستخدم هذه العبارات بشكل دائم في بيانات أولئك المستنكرين الرسمية وتصريحاتهم الصحافية، بينما يستمر تساقط القنابل على رؤوس الأبرياء، وتستمر إسرائيل في توسيع مستوطناتها، وتهجير الفلسطينيين من منازلهم ومضاربهم وقدسهم وأرضهم، وفق مساعٍ ممنهجة للتطهير العرقي. مواقف وإن قدرناها إحياناً إلا أنها وبعد عقود من الصراع شهدت نكبات ونكسات، وبعد أكثر من 330 يوماً من المحرقة الجديدة المستمرة، لم يعد لمواقف كهذه أي إثر يذكر. فمواقف بلا مخالب ما هي إلا شيكات بلا رصيد، لا تأتي إلا في سياق رفع العتب والتحلل من المسؤولية الأخلاقية، ضد شعب ذبح ونحر لأكثر من سبعة عقود من الزمن تخللها صدور مئات القرارات الأممية، التي إن تسلح بها أصحاب الشجب والاستنكار لخلقت واقعاً مختلفاً، أعفى البشرية من سوداوية المشهد في فلسطين ومن حولها.
المفارقة في الأمر تكمن في حقيقة أن الشيك وإن حمل وعدا بالدفع، إلا أنه وفي ظل انعدام التغطية المالية خلف ذلك الوعد، إنما يجر صاحبه اليوم وفي كثير من المجتمعات إلى الملاحقة العدلية، لكن فعل الشجب والاستنكار ليس فارغاً من قيمته الفعلية والتأثيرية فحسب، وإنما لا يخضع لأي مساءلة تذكر . وعليه فإن الشجب إنما يحمل بعداً معنوياً في التعاطف والتأييد، لكنه لا يشكل ضمانا بتحقيق العدالة، ولا حتى فعلاً يذكر باتجاه إعلاء كلمة الحق وهو ما يجعل هذا الفعل ومع الاحترام الشديد لأصحابه ما هو إلا بمثابة كلام فارغ ليس إلا.
لقد شهد العالم وفي خضم عقود من الصراع العربي الإسرائيلي الكثير من المجازر والاعتداءات على الشعب الفلسطيني، بدءا من نكبة 1948 مرورا بنكسة 1967، وقائمة لا تنتهي من الحروب، وصولا إلى الحرب الوجودية على الهوية الفلسطينية والمستعرة الآن والتي ما جاءت إلا بفعل كثافة الشجب والاستنكار، وما رافقهما من حالة اللافعل واللاتحرك واللاعمل واللاهتمام، وبفعل العجز الدولي، والانبطاح الأممي أمام أهداف إسرائيل ونزواتها.
ولعل أبشع ما يصاحب هذا العجز، يكمن في ازدواجية واضحة في المعايير واستسلام شامل أمام واقع لا يتغير. ففي الوقت الذي تُفرض فيه عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على دول أخرى لارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان، أو لشنها حروباً متعددة، تجد أن إسرائيل تُعامل معاملة مختلفة تماما، فيتم التغاضي عن جرائمها تحت ذريعة «الدفاع عن النفس»، أو «مكافحة الإرهاب»، في انتهاك واضح للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. ولا تقتصر هذه الازدواجية على الدول الكبرى فقط، بل تشمل أيضا المؤسسات الدولية ومنها، مجلس الأمن، الذي يُعتبر أعلى هيئة لاتخاذ القرارات الدولية المتعلقة بالسلم والأمن. لقد أصدر هذا المجلس العديد من القرارات المتعلقة بفلسطين وإسرائيل. لكن هذه القرارات تبقى حبراً على ورق، حيث يُحبط أي جهد لتنفيذها من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) من قِبل بعض الدول العظمى، وخاصة الولايات المتحدة.
وبذلك فشل مجلس الأمن ومعه أطر ومجالس ومؤسسات الأمم المتحدة، التي أنشئت لتحقيق السلم العالمي وحماية حقوق الإنسان، في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. على مر السنين، خاصة بعد إصدار مئات القرارات التي أدانت وتدين إسرائيل وتطالبها بإنهاء احتلالها لفلسطين ووقف الاستيطان والانسحاب الشامل من الأراضي المحتلة، لكن هذه القرارات تبقى بلا تنفيذ، والسبب يكمن باقتصار الجهد العالمي على الشجب والاستنكار والتعبير عن القلق والإدانة بأشد العبارات وانعدم الآليات الفعالة لفرض هذه القرارات، ما جعل الأمناء العامين للأمم المتحدة من أكثر الناس قلقاً وانشغالاً في قضية لم يمتلكوا إزاءها سوى لغة الكلام والمواقف الصماء والخطب الشعاراتية الفارغة.
أما المؤسسات الدولية الأخرى، كمحكمة الجنائية الدولية، التي لديها صلاحية التحقيق في جرائم الحرب فقد أصبحت منصة للمماطلة والتسويف، بفعل جبروت الولايات المتحدة الأمريكية وسطوة التأثير الصهيوني عليها، وما يصاحب ذلك من سيل من الضغوط السياسية الهائلة، التي تمنع تلك المحكمة ومعها محكمة العدل الدولية من اتخاذ أي خطوات ضد القادة الإسرائيليين المتورطين في الجرائم ضد الفلسطينيين، أو وقف الذبح والقتل الذي يتعرضون له.
أما البرلمانات العالمية ومع تقديرنا لكثير منها ومن مواقفها، إلا أنها واجهت الحال ذاته بعد أن أصدرت قرارات داعمة للقضية الفلسطينية، دونما تأثير يذكر لهذه القرارات. السبب في ذلك إنما يعود إلى أن هذه البرلمانات لا تملك القدرة على تنفيذ سياسات خارجية بمفردها، وتحتاج إلى موافقة حكومات تنفيذية افترستها إسرائيل وحيّدت قراراتها. وعليه فقد بقيت هذه القرارات مجرد حبر على ورق، وتكفير واضح عن التقصير، وتعبير عن الرأي السياسي دونما توظيفه في سياسات فعالة تضغط على إسرائيل.
لكن الإحباط الذي يخلقه الشجب والاستنكار، وعلى الرغم من كثافة التحديات التي عاشها ويعيشها الفلسطينيون، لم يستطع أن يقتل الأمل في صدر شعب شهد سيلاً من التحولات السياسية التي جاءت بأنظمة وأيديولوجيات ظهرت وأفلت، بينما بقي هو على إصراره وعناده، حتى يستفيق ضمير العالم ويتحول الشجب والاستنكار إلى فعل وأثر. إن الكلمات وحدها لا تكفي، بل يجب اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف إسرائيل وأحلام صهاينتها، لأن الشجب والاستنكار لن يحققا العدالة بل سيساهمان في انغماس أصحاب القرار الأممين في وحل الجريمة المرتكبة، وهو ما يجعلهم شركاء بصمتهم وتنصلهم من مسؤوليتهم. فهل يدرك المجتمع الدولي حاجة الفلسطينيين لأفعال حقيقية؟ أم ينتظر الفلسطينيون مليون شجب واستنكار قادمين، بينما يبقى عداد العجز متواصلاً؟ ننتظر ونرى!