قبل هزيعه الأخير يتجلى عزت الغزاوي في روايته "الحلاج يأتي في الليل"، والحلاج بما يحمله من معان ثرية، وهو الشاعر الصوفي والذي قُطّعت أطرافه وقُطع رأسه وعلق على باب بغداد بتهمة الزندقة.
خلد التاريخ شخصية الحلاج ورمى بقاتليه في درك الحضيض، قرأت عنه مطولا في التاريخ والأدب وتملكني شعره الروحاني وكما ينشد:
كَتَبتُ وَلَم أَكتُب إِلَيكَ وَإِنَّما كَتَبتُ إِلى روحي بِغَيرِ كِتابِ
وَذَلِكَ أَنَّ الروحَ لا فَرقَ بَينَها وَبَينَ مُحَبّيها بِفَصلِ خِطابِ
وَكُلُّ كِتابٍ صادِرٍ مِنكَ وارِدٌ إِلَيكَ بِلا رَدِّ الجَوابِ جَوابي.
وفي المسرحية الشعرية" مأساة الحلاج" للكاتب صلاح عبد الصبور، ركز على فصلين وهما" الكلمة" والفصل الثاني "الموت"، وهي من أروع ما قرأت وهي ذات أبعاد سياسية والعلاقة ما بين السلطة المتحالفة مع رجال الدين والتي تحاول استغلال الفقر وقتل المحبة والرحمة من خلال التكفير.
وتقع رواية عزت الغزاوي بين يدي، وكما يقولون إنه لا يوجد عمر أو تاريخ للرواية والتي تعيش نتيجة تفردها الإبداعي وتواصل البقاء وتثير مزيدا من الأسئلة الباهرة، حيث لا يهم اي أحد تاريخ رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب الصالح، ومن باب الفذلكة قد يشار إلى جنسيته، ولكن موطنه الحقيقي هو عالم الإبداع تعبيرا عن الاغتراب، ولا يهمني مطلقا تاريخ رواية "الحرافيش" للروائي العظيم نجيب محفوظ.
وعليه قد يكون عزت الغزاوي لم ينل قسطا كبيرا من الاهتمام بروايته، لأنه رحيله المفاجئ جاء في عصر الجفاف الأدبي مترافقا مع الهبوط في حقبة أوسلو.
وعلما أنني من المهتمين بعالم الرواية وفاتني قراءة عزت الغزاوي، ولكن في يومي هذا كسبت قراءة نص عالٍ يتوافق مع ملاذنا في زمن النكوص وتراجع الايدولوجيات وآثار حقبة أوسلو وتدني الفكر والفلسفة والأحلام الكبرى.
ودخولي إلى سردية الغزاوي من باب العنوان الذي شدني، فولجت الى عالمها والذي يعيشه الفلسطيني "أيوب" بكل رمزيته وواقعه كمبتعث لدراسة الأدب الإنجليزي في أمريكا والعائد مع زوجته كاترين الأمريكية إلى سقيفة والده الشيخ عبد المعطي في قرية أم الرمان.
يفتش في تركة والده الشيخ عبد المعطي ليقع على مخطوطة مكتوبة بخط والده وهي تحت عنوان" الحلاج يأتي في الليل".
يشرع الكاتب في عرض طفولة حسين المنصور الحلاج، نذرته والدته للإمام الصوفي "ابن الجنيد"، رافقته والدته من قريته "تستر" سيراٌ الى بغداد، وتكشف ما بين السطور من ذهاب المؤلف بنا نحو الإيمان المتسامح والمتجلي بالتصوف، يسوق مقارنة قالها لأيوب استاذ الادب المقارن عن ثلاثة أشكال للتدين:-
أولهما :- علاقة الناس مع الدين هي علاقة جذب ونفور ويرون أن المغفرة أوسع من العذاب.
ثانيهما:- لجوء الناس الى التزمت ويرون الأحكام بحرفيتها.
الشكل الثالث:- يكون الله نور القلب، وترى الناس ذاهبين الى النور.
ويركز السارد على أن الحلاج هو ما يرسمه والده الشيخ عبد المعطي من الخيار الثالث، يرسخ أيوب هذه الطريقة التي أخرجت الحلاج مما أحاق به من ظلم وسار به نحو "الحلول "ورأى الحلاج يتداخل مع أعماقه.
وفي إشارة ساخرة "ولو أن الحلاج في عصرنا لن يحظى حتى بمحاكمة وإن لم تكن غير عادلة".
يعدد السارد قراءة أيوب الثالثة لمخطوطة والده عن الحلاج وتجنب الإشارة لحياة الحلاج من زوجة وأبناء بل جعله أقرب الى المسيح، ويعترف الكاتب على لسان أيوب أن عشر سنوات من الدراسة في الكتابة الابداعية لم تعطه القدرة على وضع الأفكار الفلسفية التي يطرحها هذا الايجاز.
رحلة أيوب لتعلم اللغة الانجليزية وإجابته على سؤال: ما هو المشترك بين قصائد شيلي وفروست وديكنسون؟.
كان جواب أيوب هو: "المآل النهائي" وهنا الربط بين دراسته والحلاج في "المآل النهائي والحلول والتداخل مع أعماقه" وهي الأسئلة التي تسكن السردية باقتدار.
وقدرة الروائي على تنويع النص وإدخال فصل كاترين وهي تدون مذكراتها على شكل الملاحظات.
أهمها موت "أمون العجوز" عن عمر مئة وثلاث سنوات محتفظة بمفتاح وكوشان، والتناقض الفاضح كانت تأتي بعجائز المستوطنة ليمارسن الجنس مع شباب دير الرمان مقابل المال، ينزع التطهرية عن العجوز.
تنصحه كاترين أن يترك نشر رواية الحلاج لشخص أخر لأنه يحب ويكره ويتناقض مع المخطوطة مع أنه قرأها ما يزيد عن العشر مرات، اعتراف من الكاتب عن عسر فهم تصوف الحلاج وفلسفته.
في الفصل التالي العنوان" الحلاج يأتي في الليل" تأليف الحاج عبد المعطي بن رمضان الراوي، يهدف الى أن المؤلف هو شيخ على سجيته وفطرته، يستطيع فهم العمق الصوفي، والذي يحتاج الى إدراك لغتها ومفاهيمهما وأورادها لا يملكها إلا العارف بلغة المتصوفين، ويتجنب الوقوع في شراك السلفيين الذين زندقوا وكفروا الحلاج.
يحاول الكاتب التطرق لمبدأ الحلول وهو ما قرأه " الله نور السماوات والأرض" توقف عند" مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" .
يعود الى بداية رحلة الطفل الحلاج من قريته تستر مع والدته والقصد بغداد مدينة الخرافة والأضواء البلورية والمساجد والبضائع وباب بغداد منبسط يلتقي القادمون والذاهبون اليها ويتم تسليم الهدايا بين عبيد وخصيان وقيان وجوار وأموال وآلات عزف وغيرها، هذه الإضاءة على الانغماس بعالم الحياة، يصف البضائع من صندل السودان وروائح بخارى وبلورات، ومسحوق تضييق الفرج، وشهد أخصاء صبي.
يسرد ذكريات الصبي الحلاج وفشله في تعلم حرفة الدباغة والحلويات وغيرها.
يصلون مدينة بغداد والانقلاب على الخليفة وسمل عيونه وتعيين خليفة جديد، وهي إشارة للحالة السياسية السائدة.
يصلون مسجد الشيخ جنيد، تتركه لأنه منذور لخدمة مسجد.
تطرقت الرواية الى سيرة الجوع والولد الذي يسرق رغيفا والحلاج الصبي يشتري الخبز ويوزع في الزاوية على الفقراء.
يحذره الشيخ لأنه بعد خدمة اربعين عاما أضحى أهل السوق "يظنون أنه مجنون" وعباراته ذات المعنى والتجلي" لا تعمى عيونكم حين ينبثق النور العلوي من شاهق السماء: "إن أحدا لا يستطيع سجن المعرفة حين تفور في بركانها" .
"ثمة مصدر واحد نمشي اليه في قلوبنا"
وتصدر منه العبارات حتى سأله أحدهم: هل أنت قرمطي؟؟
ويذهب الكاتب الى التجلي الصوفي في صفحاته 115 و116
من الرواية " المدن نراها ولا ترانا" الخ .
وأخيرا المحاكمة ونهاية الحلاج بقطع اطرافه وعنقه وحرق جسده،
وأنا لي رأي بقتل الحلاج وزندقته نابع من قراءاتي وتحليل وشغفي، أنه معارض سياسيي وداعية للإصلاح في ظل فساد الحكم، وأن علماء القصر افتروا عليه.
رواية تستحق القراءة وتطرح كثيرا من الأسئلة وتحفز على البحث عن أجوبة وخاصة رحلته إلى الهند بحثا عن النيرفانا، وأسئلة الوجود والحياة والسياسة والتصوف والتسامح والإنسانية المبنية على المحبة.