المتوكل طه
*
غَنَّيْتُ غَزَّةَ أم بيروتَ أم قانا
شواهداً تَزْحَمُ الدُّنيا وصُلبانا
كأنها جمرةٌ تحتَ اللسان إذا
لَفَظْتَهَا تَدْلَعُ الأَنْفاسُ نيرانا
أو أنّها ظُلْمةٌ تجتاحُ ناحيةً
وفجأة! أبرقت صَهْداً وفُرسانا
وغامت الرقعةٌ الدكناءُ وانقشعت
عن الجنازاتِ أسراباً ووحْدانا
كأنها ما تبقّى إثْر زَلْزَلةٍ
تُخَسّفُ الأرضَ بنياناً وَرُكْبَانا
أو ما يُخلّفهُ الطوفانُ من عَدَمٍ..
فكيفَ إنْ أتْبعَ الطوفانُ طوفانا
هي التي شهدتْ أنَّ الزمانَ مضى
على رقابِ ضعافِ الناسِ قُربانا
وأنّ أُمَّتَنا هاَنت ولو ذكَرَتْ
لما أَقرّتْ لهذا الموتِ عنوانا
لكنها قد أُبيحت حينما رَضيتْ
أن تجعلَ السادنَ الدهريَّ سَجّانا
وصارَ شبهَ نبيّ في مرابعنا
كلُّ الذي جَزَر الأعناقَ ميدانا
وَصارَ دهريَ في عصرِ الطوائفِ ما
أبقى على العالم الوحشي غيلانا
ولم يَعُدْ من ندى الإنسانِ ما انتظرتْ
حدائقُ الأرضِ إزْهاراً وريّانا
هذا هو العَاَلَمُ الأعمى الذي جعلت
فِعَالُهُ من حليبِ الطفل قِطْرانا!
يا أيُّها الكونُ! لسنا سائغينَ لكمْ
تُوزَّعونَ الردى سهلاً ووديانا
ولن يَمُرَّ الغزاةُ القاتلونَ ولن
يُخيّمَ الصمتُ في الأرجاءِ إذْعانا
وسوف نُحصي شرايينَ القتيل إلى
أن ننسجَ العَنْدمَ الفوّاحَ قُمصانا
ونعصر ُ الدمعَ من أحجاره وجعاً
حتى نُغرّقَ مَنْ أبلى وآذانا
ونعرفُ الغازَ في زنزانةٍ خُنِقَتْ
وعَصْبةَ العينِ أنواعاً وخيطانا
وكلٌ سَوطٍ هوى في الَّلحم نعرفُهُ
ونعرف ُ السّجنَ إذلالاً وقُضبانا
ونعرفُ البلطةَ الهوجاءَ إن بَقَرتْ..
وَيتَّمتْ.. وَسَرتْ في الدار شيطانا
ونعرفُ الطَلقَاتِ الحقدَ إنْ فَغَرتْ
رأسا وطيراً واشجاراً وجيرانا
ونعرفُ الجارفاتِ الحقلَ إنْ غَرزَتْ
أنيابها خلعت ضلعاً وشريانا
ونعرفُ الحاجزَ الوحشيَّ إنْ وضَعتْ
حواملٌ نَزْفَها خوفاً وفُقْدانا
ونعرفُ الشَّهر والأيامَ إنْ سلَخَتْ
مقاصلُ الذبحِ مَغصُوباً وعريانا
فَمَنْ يُسامحُ، او ينسى ؟ وكيف له؟
ومن سيغفرُ في الدنيا الذي كانا
فليسقط الصمتُ عجزاً كان أو طمعاً
ولْيسقُطِ الخوفُ... والتابوتُ ملآنا
*
ولم يزلْ مِن قصورِ الرومِ حاكُمِنا
ولم تزلْ عِلْيةٌ الأقوامِ خصْيانا
هدّوا الَمدائنَ ، فاخرُجْ يا عَليُّ على
مّنْ جاء ينهبُ آباراً وبلدانا
وانظر لبيروت ! هل هذي عروستنا ؟
تلك التي ركبت بحرً وأزمانا
وكانت الشمسُ في شرقِ المكان إلى
أن طاولت في شروقِ الغربِ بُركانا
بيروتُ فيروزُ أو أعراسُ عاشقةٍ
والبرقُ إن نامَ أو إنْ قامَ عِمدانا
بيروتُ ناجي العَلي المحفورُ في دَمها
وظَهْرُ حنظلة َ المطعونُ إخوانا!
بيروتُ فينيقُ هذا العصر، إنْ حَرَقوا
غٌصْناً..ترى كوكباً بالأرْز مُزْدانا
بيروتُ مارسيل ُ إن غنَّى لقلعته
ورَبَّةٌ بعثتْ مَيّا وجُبرانا
ومسرحُ الماءِ والأضواءُ مائسةُ
في شِعر شوقيَ إنْ أهداهُ مُطرانا
وجارةُ الوادِ أو كأسُ الغبوقِ إذا
أعادنا لزمانِ الوصولِ..أنْسَانا
بيروتُ غزة أو يافا إذا هتفتْ
نمشي ونقطعُ أسلاكاً وجُدرانا
ويلتقي النيلُ بالعاصي على فَرَحٍ
شوقاً ، كما تلتقي قرطاجُ عَمَّانا
القلبُ ينبِضُ والأضلاعُ واحدةٌ
صوتاً ووجهاً وأحلاماً وأحضانا
ولن نموت!اصرخوا حتى يعودَ لنا
عصرُ الكرامات إحقاقاً وميزانا
وعلّموا الزمنَ القهّارَ أنَّ لنا
نَصْراً نُتَوّجُهٌ رَعْداً ونيسَانا
ونرفعُ النجمَ بالأَعلام إنْ خَفَقتْ
ونزرعُ الأرضَ بيداءً وصُوّانا
وَنُرْجعُ الَعْينَ إنْ سَدّوا نوافذَها
بصيرةً، ويَظلّ الصُبْحُ مَسْرانا
بيروت رَمْزُ بقاءِ الصامدينَ لها
جسراً، وضاحيةً تبقى ، وسُكّانا
بيروتُ ساحاتُ تمثالٍ لنورسةٍ
ودمعةُ رَنَّقَتْ بالسّرِ غُزْلانا
والأَخْطَلُ الُمرْتقي في عَرْشِها اجترحَتْ
أشعارُهُ لهفَةً تعلو.. وأوطانا
شقيقةُ القدس لا ندٌّ لها ، فإذا
بيروتُ قالت يكون الردُّ بيسانا
***
وإننا سَنُعيدُ الأمْرَ ثانيةً
سفينةً تجمعُ الدُّنيا .. وقبطانا
تكون فيها بساتينٌ مُشَرَّعةُ
لكل زَهْرٍ تلاويناً وسيقانا
وماؤها في مآقيها،وطائرُها
حُرٌّ ، ومِن بَذَخِ الأثمارِ حَيْرانا
ونجعلُ الوردَ راياتٍ لنا ، ونرى
فَرَاشَ جنّتنا باباً ورضوانا
ونوقظُ الجَمْرَ في أَحشاءِ مَن جَرحَتْ
بِرمْشِها مَنْ ترى ..شيخاً وفِتْيانا
وننشدُ الشّعْرَ في الأجفانِ: إن نَظَرتْ
قَتَلْنَنَا ، ثُمّ لم يُحيينَ قَتْلانا