نافذ الرفاعي
يسود عصر مدربة الإتيكيت وحضورنا إلى مأدبة الشرق الجميل، تتوه العبارات في حسنها،
ويتصنع الناس مسائل لها علاقة بالشكلانية،
الاشياء تذكر بالاشياء عندما كنت اعمل مديرا عاما للمنظمات الدولية غير الحكومية في وزارة الخارجية ، التقي وفودا وأنظم اجتماعات تطلب الإتيكيت والرسمنة والبرتوكول، جاءت زائرة مختصة بالإتيكيت إلى وزارة الخارجية، تأملت هندامي، وأرسلت نظرة نحوي، اعتقدتها إعجابا ولكن أيقنت لاحقا قصدها، تمعنت عشرات الموظفات الدبلوماسيات وهن يرتدين ألوانا صاخبة وهادئة، لا يتقيدن بالمراسم والألوان الداكنة، لا يتماشين مع طقوس الدبلوماسية،
أبدت العديد من الملاحظات كمحترفة ومدربة مراسم وإتيكيت،
واقترحت تنظيم دورة تدريب لموظفي وزارة الخارجية للتوافق مع الإتيكيت ،
انفجرت ضاحكا بشكل هستيري، ولم أتمكن من ضبط نفسي، كانت متفاجئة بي وانطباعها عادة أني رزين كما وصفتني، بعدما تمالكت نفسي دعوتها لمرافقتي مع وفد دبلوماسي إلى مدينة الخليل بعد يومين ،
وهناك تجدين الإجابة على سبب ضحكي ،
وافقت ونصحتها بارتداء زي ليس رسميا، يتيح لها حرية الحركة والجلوس على الارض،
بدت مستهجنة وهزت رأسها موافقة بلا اقتناع،
بعد يومين كانت وفود البعثات الدبلوماسية تتجمع أمام الوزارة وحضرت مدربة الاتيكيت بمنتهى أناقتها ورسمنتها،
ضكحت وانا اصافحها وهي تدقق النظر، حيث انني تحررت في ذلك اليوم من ربطة العنق، وحذائي الرياضي يتناغم مع ما ارتديت،
صعدنا الحافلة وتوجهنا نحو مدينة الخليل عبورا من الطريق الالتفافي والذي يطيل المسافة ساعة على الزمن، وهذه الشوارع تحظر علينا المرور المباشر عبر مدينة القدس والتي تختصر الزمن والمسافة على الأقل ساعة،
طبعا توليت الشرح للوفد كلما مررنا بمستوطنة والإشارة الى عدم وجود خزانات على أسطح بيوت المستوطنين ،
أما على بيوت الفلسطينين فخزانات الماء مزروعة بالعشرات، واخبرتهم أن المستوطنين يسرقون مياهنا، وهي متوفرة لديهم طوال الوقت أما نحن فكل اسبوعين او اكثر نتلقى الماء وعليه نضع الخزانات ونقتصد جدا،
وصلنا شارع الشهداء في مدينة الخليل، وهو النقطة الفاصلة التي يسكنها عتاة المستوطنين العنصريين، المحروسين من جيش الاحتلال ، تعمدت الكلام بالعربية، هددني المستوطنون، تدخل الجيش ليبعدنا عن المكان نتيجة رؤية الدبلوماسيين وتنتهي المشادة، ونمشي في حواري مدينة الخليل القديمة، من خزق الفار، وسوق اللبن، وقنطرة الشلودي، وعشرات الاماكن في المدينة تحمل في أقواسها التاريخ، من اجمل المدن القديمة في العالم تحتفظ باسواقها وبضائعها، يدمر المستوطنون طهر المكان وحياة الافراد، سرنا نحو الحرم الابراهيمي ومررنا على تكية أبينا ابراهيم، وهي تعد نوعا من الطعام تذوقه الجميع، لتتفرد هذه المدينة بأنه لم ينم فيها جائع،
وفي طريق العودة خرجنا من البلدة القديمة باتجاه باب الزاوية، حيث اخذتهم إلى مطعم القاعود في باب الزاوية، وهو من أشهر المطاعم الشعبية للحمص والفول والفلافل، ما زالت كراسي القش الرائعة مفروشة على رصيف الشارع، سلمت على صاحب المطعم والذي يعرفني منذ كنت اعمل في رابطة الجامعيين ،
مرحبا وسائلا: هؤلاء متضامنون، أجيبه :نعم، بدك تكرمهم،
بدأ بقلي الفلافل وتجهيز الحمص والفول والخبز الطازج، قدم الوجبة على رصيف الشارع ، أخبرتهم أنه لا ملاعق ولا إتيكيت سوى غمس قطعة الخبز في صحن الحمص المشبع بالزيت
وارتشاف المشروب المرافق هو الشاي الخليلي الغامق،
جلست بجانبي مدربة الإتيكيت، تحتاج لشيء يغطي أفخاذها فناولها القاعود وشاحا، خافت على "المينيكير" وأظافرها ولكنها تذوقت لذة تناول الوجبة بالخبز المغموس في زيت الزيتون والحمص، وزدت الطين بله عندما طلبت فحل بصل وضربته بقبضة يدي، شرع الأجانب بمحاكاتي، واضطرت هي لذلك، وقالت رائحة البصل ستفوح من فمي، قلت : كلها بصل ولكن العم سيعطينا قليلا من النعناع لنمضغه وتذهب رائحة البصل،
وحكاية العم القاعود بائع الحمص والفول والفلافل،. لديه تسعيرة خاصة، ينظر للمشتري إن كان فقيرا ، يأخذ قليلا من الدراهم ويقدم وجبة كبيرة وخاصة لمن يشترون ويأخذون لبيوتهم، أما متوسطو الحال يكون السعر متوسطا، وأما للأثرياء يكون سعرا مناسبا،
صاحب المطعم خفض السعر كثيرا للمتضامنين، طلبت منهم أن يدفع كل فرد عشرة دولارات ومن يريد أن يدفع اكثر ،
قدمت حزمة من الدولارات لهذا الرائع والذي قال: والله كتير،
استخدمت المغسلة وصابون الجمل من زيت الزيتون، رشفوا الشاي،
سالتني مدربة الإتيكيت: ماذا كنت تفعل في عشاء العمل في البلدية؟
كنت ممثلا عن رئيس بلدية بيت لحم وأنوب عنه في عشاء عمل مع وفد من البلديات الأوروبية،
طلبت لهم مأكلوت شرقية، ارتشفت الشوربة بدون ملعقة، قلدوني ورميت الشوكة والسكين، شرعنا بتناول الوجبة حسب تقاليدي وطقوسي،
حينما رميت الملعقة، اعتبروا أن هذه طقوسنا فرموا الملعقة،
قالت ماذا تقصد أيها الكاتب أهي فلسفة ام تنمر؟
أجبتها: من يجرؤ على التنمر على أناقتك الباهرة!
لكن اعذريني أردت فقط أن أقول إن المظهر والشكلانية دون المضمون والوعي لا تغني عن الخطاب،
أعذريني، لقد شاركت في مناقشة رسائل ماجستير وكان المتبع هو التقيد بالفواصل ونوع الخط ووضع الاقتباس والترقيم،
يهز الممتحنون رؤوسهم إعجابا بالالتزام بالشكليات، وأنا أبحث عن موضوع ومضمون داخل الرسالة فلا أجده،
إنه مكسو برداء المقاييس للبحث العلمي ولا رائحة للابتكار ومضمون غير ابداعي، لا جديد فيه، ويمنح اللقب،
وعليه اسمحي لي أن أرمي الملعقة.
هزت رأسها نفيا وموافقة بابتسامة خاطفة.