رام الله- معا- صدرت عن دار الشامل للنشر والتوزيع، دراسة محكمة للأديب والباحث الفلسطيني حسن عبدالله بعنوان "أم كلثوم في تجربة المعتقلين الفلسطينيين فضاء حرية".
وتسلط هذه الدراسة الضوْء على ظاهرة فنية إبداعية ثقافية اجتماعية برزت وتجلت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بين المعتقلين الفلسطينيين وأغنية أم كلثوم، حيث كان يتاح الاستماع لأم كلثوم في المعتقلات ساعة واحدة يومياً، قبل أن يحقق المعتقلون في إضراباتهم مطلب شراء واقتناء أجهزة الراديو والتلفاز في أواخر الثمانييات.
وكان صوت أم كلثوم يخترق الحصار ويتسلل إلى المعتقلين طربياً دافئاً حنوناً يضمد الجراح ويبلسم الوجع، حيث كانوا ينتظرون هذا الصوت بفارغ الصبر ويستمعون به ضمن طقوس خاصة جداً.
ولفتت هذه الظاهرة الفنية انتباه الباحث الذي عاش التجربة في ثمانينيات القرن الماضي ، وطرب إلى أم كلثوم وتفاعل مع صوتها الاستثنائي كما الآخرين. وبعد سنوات طوال من عمله في مجال البحث أصدر خلالها عدداً من الدراسات قرر إخضاع هذه الظاهرة للبحث مستخدماً في ذلك المنهجين التاريخي والكيفي ، مستنداً إلى خمسين مقابلة مع خمسين معتقلاً كان لهم تجاربهم الخاصة مع الصوت الكلثومي ، امتدت فترات اعتقالهم مابين 1967 و1997 وهي الفترة الزمنية التي تركزت فيها الدراسة.
ولإعطاء تجربة أم كلثوم بعدها التاريخي مع الفلسطينيين كان لابد من تمهيد بحثي، فخصص الباحث الفصل الأول لبعض المحطات الحياتية والفنية بعنوان " أم كلثوم من القرية المحافظة إلى فضاء العالمية"، وحمل الفصل الثاني من الدراسة عنوان" جدلية السياسة والفن /عبد الناصر وأم كلثوم / أم كلثوم والمجهود الحربي"، فيما تم تخصيص الفصل الثالث لعرض وتحليل العلاقة التاريخية بين أم كلثوم والفلسطينيين لاسيما وأنها أحيت حفلات في فلسطين خلال زيارات ثلاث في أعوام 1928و 1931و 1933ثم أغانيها لفلسطين في الستينيات وصولاً إلى الفصل الرابع " أم كلثوم في تجربة المعتقلين الفلسطيينين"، إذْ كانت الفصول التي سبقت هذا الفصل ضرورية لتبيان وشرح الأبعاد الشخصية والوطنية والقومية والإنسانية الرحبة.
وخرج الباحث كخلاصة لدراسته بعدد من التوصيات أهمها:
1- إن التعريف بأم كلثوم ودورها وتجربتها الوطنية والإنسانية، ينبغي ألا نحصره في فيلم واحد أو مسلسل ناجح على أهمية ما قدم على هذا الصعيد؛ بل إن تجربة عملاقة تتطلب باستمرار عرضاً وتحليلاً، خصوصاً وأنها متعددة الجوانب والميادين، لذا فإن كليات الفنون في الجامعات العربية ووزارات الثقافة واتحادات الكتاب والفنانين يجب أن تعطي هذه التجربة مزيداً من الاهتمام من خلال تشجيع الباحثين لتقديم أعمال بحثية جديدة حول التجربة، وتتطلب كذلك من طلبة الدراسات العليا في الفنون تقديم دراسات أكاديمية معمقة عن تجربة فنية لم يشهد لها العالم العربي مثيلاً من حيث الأهمية والتأثير.
2- تجربة أم كلثوم مثال حي على علاقة الفن بالسياسة، والمقصود هنا أن يتقدم الفن على السياسة أو يعملان معاً بتكافؤ، لا أن يمسك الفن بذيل السياسة كما هو سائد الآن في معظم الدول العربية، ويمكن استخلاص دور الفن وريادته من تجربة أم كلثوم عندما بادرت وتصدرت الصفوف، وهي تدعم المجهود الحربي.
وعليه يوصي الباحث أن ينبري الدارسون في العلوم السياسية في الجامعات لأخذ تجربة أم كلثوم كنموذج للبحث والتحليل حول علاقة الفن والسياسة، أين يتقاطعان وأين يتنافران، وكيف يمكن للفن أن يكون ريادياً وليس تابعاً.
3- أوصى الباحث بلدية رام الله، لأن المدينة أخذت في السنوات الأخيرة مساراً ثقافياً فنياً لافتاً، بإطلاق اسم أم كلثوم على ميدان أو مسرح تقديراً لدورها الداعم للقضية الفلسطينية بالأغنية والموقف.
4- أن يولي الإعلام الفلسطيني تجربة أم كلثوم أهمية خاصة، ويسهم في تعريف الأجيال الجديدة بفنها ومواقفها الوطنية والقومية، من خلال تخصيص برامج حول أهم محطاتها الفنية، وعلاقتها بالفلسطينيين منذ عشرينيات القرن الماضي.
5- تكريم تجربة أم كلثوم تقديراً لأغانيها الوطنية التي خصت بها القضية الفلسطينية من خلال جائزة محمود درويش أو وزارة الثقافة.
6- عمل الفن في خمسينيات وستينيات القرن الماضي على مد جسور ثفافية وسياسية بين الدول العربية، وكانت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ في صدارة الفنانين المؤثرين. واليوم وفي ظل استهداف الدولة العربية القطرية، وتفكيك دول أو التخطيط لإرجاعها إلى مرحلة ما قبل الدولة، يوصي الباحث الاتحادات الثقافية والفنية والإبداعية في العالم العربي لإعادة الاعتبار لدور الفن قومياً، والانطلاق من وحي تجربة أم كلثوم في إقامة أنشطة وفعاليات فنية مشتركة، وتبادل الخبرات في هذا الجانب، وليس الاقتصار على استضافة المطربين الذين يشترطون مئات آلاف الدولارات مقابل إقامة الحفلات. وقد أوصى الباحث الاتحادات الفنية على عدم إغراق أنشطتها في القُطري، وإنما في تشجيع التلاقح الفني العربي، وتوظيف ذلك في تعزيز القواسم المشتركة في الفن والثقافة والسياسة، وتمويل تحرك الفنانين بين الأقطار العربية، واستدعاء تجارب فنية عربية لاجتراح خطط وتوجهات تأخذ بعين الاعتبار مستجدات الحاضر.
إن القطع بين تجارب الفنانين العرب الكبار وتجارب الفنانين الجدد، جعل الجدد يقفون على أقدام من دولارات بدل الأقدام القومية التي كان يقف بها الفنانون العرب الرواد على أرض صلبة.