بقلم: د. صبري صيدم
في ظل المقتلة المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وما يعيشه من جرائم لا تتوقف، بات من الواضح أن الكلام لم يعد مجدياً ولا كافياً ولا مقبولاً، وأن الأفعال يجب أن تتصدر سلم الأولويات، فالقضية الفلسطينية التي تأنّ بفعل قاتل لا يردعه أحد، وآلة عسكرية ألفت الموت والدمار، تستوجب تحركاً حقيقياً وفعّالاً، وليس فقط تصريحات استنكار وشجب لا تغني ولا تسمن من جوع، وبيانات فارغة لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به.
فالأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية هما المرجعان الرئيسيان للبت في قضايا الصراع برمتها، كيف لا وهما من أصدرتا قرارات تحمل صفة الإلزام لا الاستعراض، وهما اللتان من الواجب تنفيذ قراراتهما بشكل واضح وملموس، وفق التزامات الدول الأعضاء فيهما، وإقرارها بالانضباط للمواثيق الأممية الصادرة عن كلتا المؤسستين، وإلا فلا داعي لأجسام تطبق قرارتها بصورة انتقائية. إن الضغط الدولي من خلال المؤسسات القانونية، مثل محكمة العدل الدولية، يمكن أن يسهم في محاسبة المعتدين على حقوق الإنسان الفلسطيني، بل يمكن أن يشكل رادعاً لمن تسول له نفسه أن يعيد مستقبلاً تكرار ما فعلته إسرائيل وتفعله مع كتابة هذه الكلمات.
لكن الواضح أن البعض ما انفك يعيش في حالة من الإنكار، وعدم الرغبة في مواجهة الحقائق المروعة التي تستوجب تطبيق القوانين الدولية، التي تحمي حقوق الشعوب وتحفظ للجميع من دون تمييز أو تحيّز حقهم في الكرامة والاستقلال، لذا فإن الضغط على جمهور المماطلين والمترددين والمرجفين، باتت أمراً واجباً على البشرية وصولاً إلى ضغط دولي حقيقي، وإلا فكل النداءات ستبقى مجرد أصوات تتلاشى في الهواء.
أما اللاعبون الدوليون الذين يدعون الرغبة في إبرام صفقات لوقف إطلاق النار، فعليهم أن يفهموا أن الأساس يكمن في وقفهم لمد آلة الحرب الصهيونية بصنوف السلاح والذخيرة، إذ لا جدوى من الحديث عن وقف إطلاق النار، من دون الالتفات إلى ضرورة توقفهم عن مد إسرائيل بوسائل الموت، وإلا فإن النداءات بوقف النار من دول دأبت على تزويد الاحتلال بالسلاح، ما هو إلا بمثابة رفع العتب، وتجميل الكارثة، وغسل اليد من الجريمة وأدواتها.
إن السلام الدولي لا يُبنى بالسلاح، بل باحترام حقوق الشعوب وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، والاعتراف بدولته المستقلة وعاصمتها القدس، فالصفقات السياسية التي تركز على وقف إطلاق النار، من دون معالجة الجذور الحقيقية للنزاع عبر إعمال الحرية والعدالة، لن تؤدي إلا إلى تأجيل العنف والمعاناة إلى جولات مقبلة من المواجهة لا محالة.
وطالما أننا في صدد الحديث عن الحرية، وجب القول إن أولئك الذين دأبوا على التغني بمفاهيم الحرية وحقوق الإنسان وأهملوا القضية الفلسطينية، يقعون في فخ التناقض عندما يتحدثون عن «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس» لاسيما وأن طرح كهذا إنما يتجاهل الواقع المرير، الذي يعاني منه الفلسطينيون. فكيف يُمكن الحديث عن الدفاع عن النفس بينما يتم قصف المنازل فوق رؤوس أصحابها، وتدمير البنى التحتية، واستهداف المدنيين العزل؟ إن الدفاع عن النفس لا يمكن أن يكون مبرراً لتمرير الجرائم والحرق والمحق ضد البشر والشجر والحجر، فحق الدفاع عن النفس، مكفول لكل الشعوب، لكن الإمعان في الجريمة من قبل محتلٍ غاصبٍ ولعقود خلت، هو بعيد عن الدفاع عن النفس وقريب من الانتقام القائم على العجرفة والغطرسة والتمييز العنصري.
وبالتالي، يجب أن يتوقف العالم عن انتقائية التعامل مع حقوق الإنسان والسعي للتطبيق الشامل والعادل لها، من دون استثناءات أو تمييز، لا يمكن أن تُقبل الآراء التي تدعي دعم حقوق الإنسان بينما تتجاهل معاناة الفلسطينيين وألمهم ونكبتهم المتجددة، لتجنح باستمرار نحو التغني بإسرائيل خوفاً وارتعاداً من اللوبي الصهيوني ومفاعيله الانتقامية. إن التضامن الحقيقي مع حقوق الإنسان يجب أن يشمل الجميع بعيداً عن تفصيله على مقاس البعض دون البعض الآخر، فالحقوق ليست أهدافاً انتقائية، ولا سلعة تمييزية في بازار السياسة والحريات.
وعليه فمن الضروري أن يتجاوز المجتمع الدولي مرحلة الأقوال إلى الأفعال، في زمن لا يحتمل التأجيل والتلاوم والمماطلة. فالمسؤولية الأخلاقية إنما تكمن في التحرك العاجل لفرض العقوبات على الدول أو الأفراد، وكل من يساهمون في انتهاك حقوق الفلسطينيين، وأن تُشجع بالمقابل كل المبادرات التي تهدف إلى إعمال حقوق الشعب الفلسطيني، وإخراج البشرية من محنها ومواجعها، ومعالجة آثار الجريمة النكراء التي اقترفتها وتقترفها إسرائيل. عندما نتحدث عن الحلول، يجب أن نتذكر أن الأفعال لها ثقل أكبر من الأقوال فاستمرار الوضع الحالي لن يؤدي إلا إلى المزيد من الألم والمعاناة، لذا، على الجميع أن يكون جزءاً من الحل، وأن يوظف صوته وفعله لرفع الظلم عن الفلسطينيين.
في الختام، يجب أن ندرك أن التاريخ سيسجل مواقف الجميع وقراراتهم تماماً كما يسجل تقاعسهم وتخاذلهم، فالأفعال التي تتخذها البشرية اليوم ستحدد ملامح المستقبل وشكله وتفاصيله، لذا وجب تكثيف السعي لتحقيق التغيير المنشود من قبل الشعوب والدول قاطبة، من أجل إنهاء المعاناة، وتحقيق العدالة، وبناء مستقبل تعمه الكرامة والحرية لفلسطين والجميع، فهل تحرك محرقة إسرائيل للفلسطينيين جوامد السياسة، أم يبقى العجز الدولي سيد الموقف، لنراقب ونرى!