لندن- معا- تشهد الأحداث الأخيرة في غزة جدلًا متصاعدًا حول دور المقاومة وممارساتها، ولا سيما في ظل الانتقادات الموجهة إلى حركة حماس. جاءت فتوى الدكتور سلمان الداية، العميد السابق لكلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية، ضمن مقال حمل عنوان "أيها الساسة أوقفوا هذا المد"، لتثير موجة من النقاشات الواسعة. وقد دفع هذا المقال جماعة تُسمي نفسها "من أهل العلم" إلى إصدار بيان ردًا عليه.
يشير مركز رصد للدراسات السياسية والاستراتيجية في لندن إلى أن اللافت في الأمر هو أن جماعة "من أهل العلم"، بحسب تحليل الذاتية للمنتسبين لها، تضم غالبية أو جميعًا من الشيوخ الداعمين لحق الشعب الفلسطيني، وخصوصًا حماس والجهاد الإسلامي في المقاومة. وقد خلصت ورقة بحثية صادرة عن المركز إلى أن هذه الجماعة ليست كيانًا مستقلًا، بل واجهة تستخدمها حماس أو بعض الجماعات والشخصيات الداعمة لها للرد على الانتقادات، خاصة بعد أن بدا أن مقال الشيخ الداية قد يكسب زخمًا شعبيًا يؤثر على مصداقية الحركة.
الإطار العام لتحرك حماس
تنوه الورقة إلى أن هذا التحرك من حماس ليس عيبًا، بل يعكس ذكاء الحركة في مواجهة تحدياتها المتعددة، مثل رفض قطر استمرار وجودها في الدوحة، والحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل، مما يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني في غزة. غير أن النقد العلني لرموز دينية بارزة، مثل الشيخ الداية، يشكل تحديًا لحماس، إذ جاء مقاله في توقيت حساس وانتقد السياسات التي رأى أنها تُلقي بالشعب الفلسطيني في أتون الهلاك دون مبرر واضح، مع تأكيده على تقديره لجهود المقاومة.
رد جماعة "من أهل العلم"
تناولت الورقة البحثية رد جماعة "من أهل العلم"، الذي دافع عن سياسات حماس عبر توظيف الأحاديث والنصوص الدينية. تشير الورقة إلى أن استخدام هذه الأدوات يعكس سعيًا واضحًا لمواجهة النقد بالسلاح ذاته، أي السلاح الديني، لضبط السردية العامة وإضفاء شرعية دينية على مواقف الحركة.
ولكن، برزت في الرد انحيازات واضحة لصالح حماس، حيث استُخدمت مفاهيم دينية مثل "الصبر على الابتلاء" و"فضل الجهاد" لتبرير ما نجم عن عملية "طوفان الأقصى"، دون الإشارة إلى مسؤولية الحركة عن أي أخطاء في التقدير. بدلاً من مناقشة أفكار الشيخ الداية بموضوعية، ركز البيان على الطعن في منهجه ومواقفه السابقة، معتبرًا أن مقاله يسبب "شق الصف" و"إضعاف المجاهدين"، وهي اتهامات تمثل محاولة لتشويه صورة الشيخ ومنع أي نقاش جاد حول السياسات القائمة.
محاولة احتكار الخطاب الديني
ترى الورقة أن بيان الجماعة يكشف قلقًا من تأثير مقال الشيخ الداية على الرأي العام. وقد سعت حماس عبر هذا البيان إلى إعادة صياغة النقاش بحيث يصبح أي نقد موجه إلى الحركة معارضةً للجهاد نفسه. يعكس ذلك محاولة لاحتكار الخطاب الديني في غزة وتحويل أي معارضة إلى ما يشبه "التجديف السياسي".
التداعيات
خلصت الورقة إلى عدد من التداعيات التي تثير القلق، منها:
1. تهديد حرية الرأي:
يشير التصعيد ضد مقال الشيخ الداية إلى تضييق متزايد على حرية التعبير في غزة، حتى في الأوساط الدينية، مما يعكس تهديدًا لحرية النقد.
2. استخدام الدين كأداة للقمع:
ترى الورقة أن توظيف حماس للأدوات الدينية لقمع الانتقادات ينقل رسالة مفادها أن أي رأي مخالف قد يواجه التشهير وربما التجريم.
3. تآكل قيمة الجهاد:
ربط الأخطاء السياسية بمفهوم الجهاد الديني قد يؤدي إلى تقويض قيمته لدى فئات واسعة من المجتمع، وهو ما قد يفقد المقاومة الفلسطينية جزءًا من الدعم الشعبي داخل غزة وخارجها.
4. المصداقية الدينية:
إقحام الدين في الصراعات السياسية يهدد المصداقية الدينية للعلماء المرتبطين بحماس، وقد يؤدي ذلك إلى تشكيك العامة في نزاهتهم.
التوصيات
خرجت الورقة بعدد من التوصيات، أبرزها:
1. الفصل بين الدين والسياسة:
يجب على حماس تجنب استغلال الدين لتبرير قرارات سياسية قابلة للنقاش والخطأ، مما يسهم في تعزيز الشفافية والمصداقية.
2. احترام حرية التعبير:
بدلاً من مواجهة النقد بالتشهير، ينبغي على الحركة تبني سياسة استماع للآراء المختلفة، حيث يمكن للنقاشات الشفافة حول الأخطاء أن تعزز الثقة بين الحركة والشعب.
3. مراجعة السياسات العامة:
هناك فجوة متزايدة بين قيادة حماس وبعض شرائح المجتمع، خصوصًا النخب الفكرية والدينية. يتطلب الأمر مراجعة السياسات لضمان الحفاظ على المصلحة العامة.
وقد خلصت الورقة إلى أن الجدل بين حماس والشيخ الداية ليس خلافًا فكريًا بحتًا، بل يعكس أزمة أعمق تتعلق بمن يملك الحق في توجيه المسار العام لغزة. استخدام جماعة "من أهل العلم" كواجهة يعبر عن ضعف في مواجهة النقد، مما قد ينعكس سلبًا على مصداقية الحركة داخليًا وخارجيًا. معالجة هذه الأزمة تتطلب الاعتراف بالأخطاء وفتح المجال لنقاش جاد حول مستقبل المقاومة والسياسة في فلسطين.