بيت لحم- معا- عبير عواد- بنظرتها الشاخصة نحو الفراغ، تجلس في هدوء تام، بجانب عمتها التي تعتني بها، بعد أن قُدر لها النجاة لوحدها بشكل عجيب من غارة إسرائيلية استهدفت منزل جدها والد أمها، في حي تل الهوا جنوب مدينة غزة، منتصف شهر أكتوبر من العام 2023.
تُنقّل لين فروانة، البالغة من العمر 13 عاماً، بصرها بين الفراغ، ونحو عمتها، بحثًا عن أمنٍ فقدته منذ رحيل عائلتها، تجلس في مكان لا يشبه بيتها في غزة، يتراكم عليها داخله البرد، ومعاناة الفقد.
حاولتُ كسر الصمت الذي حل بالمكان، وسألتُ لين، عما حصل معها من تجربة الفقد والنزوح، فقالت: في ليلة من ليالي الحرب على غزة، وجدتُ نفسي فجأة تحت أنقاض منزل جدي والد أمي، لم أسمع صوت الصاروخ الاسرائيلي وهو يسقط علينا، لكنني علمتُ بعد برهة من الزمن أنني وسط الظلام والركام.
وأضافت لين بصوتٍ متعب، " حاولت الصراخ مرات عديدة، ناديت على أمي آية، وأخواتي علا وبسملة، وجدي عمر، لكن لم يجبني أحد، فقد كان صوتي الوحيد المسموع من بينهم تحت الأنقاض ".
وتابعت فروانة، وهي تستذكر هذه اللحظات المؤلمة، شعرتُ ( بالرعب الشديد )، كنت أود النهوض والركض نحو والدتي، لكن لم ينجُ أحداً منهم، فقد كانوا جميعهم شهداء.
انقطع صوت لين واختلط بالبكاء الشديد ثم استطردت قائلة: "ماما آية وبابا صالح وأخواتي بسملة، علا، بالإضافة إلى أخي الوحيد عماد، وخالي وأطفاله وزوجته، وخالتي وعائلتها جميعاً، وجدي الطبيب عمر فروانة وجدتي، جميعهم استشهدوا في القصف الذي طال المنزل.
صمتت لين، وحملت جهاز أيباد بجانبها وبدأت ممارسة هوايتها المفضلة الرسم، أدركت أنها تحاول الهرب من مشاعر الفقد والرعب، ثم عادت للحديث قائلة " فقدتُ عائلتي مرة واحدة، لا تفارق خيالي مطلقاً تلك الليلة التي أدركت بعدها أنهم لن يعودوا مطلقًا، لقد بكيتهم لساعات وأيام طويلة ".
وتواصل لين فروانة حديثها: "بعد استهداف منزل جدي عمر والد أمي، أصبحتُ وحيدة أتنقل بين مكانين، أشعر بالشوق الشديد لهم، كما أنني أتوق للحظات هدوء واستقرار ".
تستطرد لين، تجربتها مع النزوح بالقول: " غادرتُ أنا وعمتي سلسبيل مدينة غزة، بعد القصف الشديد، ولجأنا إلى عدة أماكن هربًا من الموت، حتى وصلنا إلى جنوب القطاع، ومع ذلك في كل مرة أسمع فيها صوت انفجار، أشعر بالذعر والخوف الشديدين ".
وتضيف، تمر في خيالي مع كل غارة إسرائيلية اللحظات الأولى للمجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق عائلتي، ( أشعر بالبرد الشديد، والخوف بشكل مستمر طوال الوقت ).
سكتت لين لوقت ليس بقصير، متجاهلة الجميع ظلت نظراتها حائرة، لمحتُ دمعة علِقت في إحدى عينيها، لكنها عاندتها وسقطت على لوحاتها المبعثرة على الأرض الباردة، ثم عادت للقول: " كانت والدتي ووالدي مؤمنان جدًا بي وبموهبتي التي نشأت معي في الصف الرابع الابتدائي، غير أن دعمهما اختفى الآن مع رحيلهم، لكنني واثقة أنهما سعيدان بي وبموهبتي وهما في الجنة " .
سألتها عن أسباب توقفها عن ممارسة الرسم لفترة من الوقت فقالت : " ربما تجربتي القاسية جعلتني أبتعد قليلاً عن هوايتي، غير أنني الآن أشعر أن الرسم هو الشيء الوحيد الذي يريحني من التفكير".
وتواصل الحديث بالقول، " أهرب بالرسم من الواقع الصعب الذي أعيشه، لكن هناك الكثير من التحديات والصعوبات التي تواجهني وأهمها انقطاع كل مستلزمات الرسم بسبب الحرب وتبعاتها ".
وأشارت لين إلى أنه لا يوجد حاليًا في قطاع غزة مواد للرسم، ولا دفاتر ولا حتى أقلام الفحم التي أعتدت استخدامها، ولا ألوان بالإضافة إلى عدم وجود ألواح الخشب التي اعتدت الرسم عليها .
واستدركت حديثها، " أرسم على جهاز الأيباد رغم المشاكل الكثيرة التي تواجهني خاصة في ظل انقطاع الكهرباء بشكل كامل عن قطاع غزة، وعدم تمكني من شحنه بشكل يومي ".
وبينت لين أنه وفي ظل غياب مواد الرسم، بدأت بمشاهدة فيديوهات للرسم بطريقة تُعرف باسم ( Digital art ) ، عبر تطبيق اليوتيوب، وقد أتقنت هذا الفن بشكل كامل .
راقبتُ لين، وهي منشغلة بلوحاتها الفنية التي تحمل الكثير من الرسائل التي تعبر عما يدور في داخلها، ثم أشارت إلى إحداها قائلة؛ " هذه اللوحة قمت برسم والديّ، وأخرى لأخي كانت اللوحات ينقصها وجودي بينهم ".
كما أشارت إلى لوحة تحمل صورة الكوفية الفلسطينية ، واصفةً إياها بأنها أصدق تعبير حاولت من خلاله إيصال رسالة بأمنياتها رؤية فلسطين محررة دون أي احتلال.
تفتقد لين دعم والديها بشدة ، تستذكر أول لوحاتها في مشوار إبداعها ، تقول: " أول لوحة فنية رسمتها تعود لمعرضٍ شاركت فيه بمدرستي قبل الحرب " ، مضيفة: شعرت يومها بسعادة وفخر بسبب دعم والديّ لي، فهما صاحبا الفضل في اتقاني وابداعي بالرسم.
وعن أمنياتها المستقبلية تقول ؛ " أتمنى أن تتحرر بلادي من الاحتلال، وأن تصل لوحاتي الفنية إلى العالم، كما أنني أطمح لأن أصبح طبيبة كوالدتي التي كانت تعمل في عيادة تابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين في منطقة الزيتون جنوب مدينة غزة " .
اخترق اللقاء صوت قصف من بعيد لا يتوقف، كذلك صوت طائرات الاستطلاع المعروفة محليًا باسم ( الزنانة )، التي توقفت عن الإجابة بسبب خوفها الشديد، وهو أمر تكرر معها منذ فقدان عائلتها كما أكدت لنا لين.
تركناها بين لوحاتها القليلة، وتوجهنا لعمتها سلسبيل فروانة،31 عامًا، لتحدثنا عن تجربتها مع لين، بعد فقدان عائلتها، فأجابتنا، " لين طفلة حساسة ومرهفة جدًا، عاشت في عائلة وفرت لها سُبل الرفاهية بشكل كامل ".
وتابعت سلسبيل فروانة، " فقدت لين كل عائلتها فجأة، بعدما نجت من مجزرة ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق منزل والد جدها، مشددة على أن ابنة أخيها مرت بظروف استثنائية ومؤلمة للغاية، بحيث أنها كانت لا تنام بسببها عدة أيام.
وتتابع سلسبيل، حديثها وهي تنظر لطفلتها الوحيدة :" لين تقضي وقتًا طويلا باللعب مع ابنتي ريم ، لكنها لا تتوقف عن طلب رؤية والديها وشقيقها، وشقيقاتها "
وتضيف، عاشت لين، أيامًا طويلة من (الانهيار) ، كانت لا تنام خلالها غير بضعة دقائق فقط، مشيرة إلى أنها جاهدت بكل الطرق للتخفيف عنها.
وأضافت العمة: " نحن نشجعها على الرسم للتخفيف عن نفسها، وإخراجها من العزلة التي تعاني منها، ربما يجمل لها الرسم شيئًا من الواقع المؤلم ".
وختمت سلسبيل حديثها بالقول، " نحاول تعويضها عن غياب أهلها، وقد بدأنا مؤخرًا بنشر فيديوهات لرسوماتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لاقت رواجًا كبيرًا من الناس في غزة وخارجها "، هذا أشغل لين قليلًا قدم لها بعض السعادة.
غادرت الخيمة وتوجهتُ بالسؤال إلى الأخصائية الاجتماعية والنفسية نهى الشنطي، العاملة في جمعية الثقافة والفكر الحر باحثة عن إجابة للآثار النفسية على الأطفال جراء فقدهم لعائلتهم بشكل كامل.
أجابتني الأخصائية نهى: الحرب بحد ذاتها وما يلازمها من قصف ودمار ورعب تعد تجربة قاسية ومؤلمة للكبار فما بالك للأطفال، وخاصة لمن يصبح ( وحيدًا ويفقد كل افراد أسرته ).
وأضافت الشنطي: " يمكن أن تتسبب هذه التجربة في مجموعة من الآثار النفسية الكبيرة والتي يمكن أن تمتد طوال حياتهم ما لم يتم تقديم الدعم النفسي والاجتماعي اللازم لهم وبشكل فوري ".
وتابعت، " من أبرز الآثار النفسية التي يمكن أن تظهر على سلوك الاطفال الفاقدين، الشعور بالصدمة والحزن "، بالإضافة إلى الخوف وانعدام الأمان، مع ظهور مشاكل انعدام الثقة بالآخرين واضطرابات نفسية وسلوكية خاصة في ظل صعوبة تعبير الأطفال عن مشاعرهم.
حدثت الأخصائية نهى عن لين وتوجهها نحو الرسم، فأجابتني : " المواهب الإبداعية من هذا النوع، وكذلك الكتابة والموسيقى والتمثيل السيكو دراما يمكن أن تكون أدوات فعّالة جدًا لمساعدة الأطفال، أو حتى البالغين على تجاوز أزمات الفقد، بما فيها فقدان العائلة ".
وشددت على أن مثل هذه الأنشطة توفر طرقًا للتعبير عن المشاعر المعقدة وتعمل كوسيلة للتكيف مع الصدمات النفسية، لافتة إلى أن الرسم والمواهب تساهم في التعافي النفسي من الصدمات من خلال التخفيف من التوتر، وتعزيز الشعور بالسيطرة، وبناء الثقة بالنفس للتواصل مع الآخرين.
ولفتت الشنطي، إلى أن غالبية الأطفال في قطاع غزة، يعانون بشكل كبير من الآثار النفسية والصدمة بسبب الحرب، الأمر الذي يستدعي التدخل وتقديم الدعم لهم بشكلٍ عاجل.
يشار إلى أنه ومنذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة، وحتى تاريخ هذه القصة، ارتفع عدد الأيتام في قطاع غزة بشكل غير مسبوق، حيث أعلن المكتب الإعلامي الحكومي الرسمي في القطاع أن نحو (35,074) طفلاً أصبحوا في عداد الأيتام، ويعيشون إما بدون والديهم، أو بدون أحدهما.
بينما ارتكب الجيش الإسرائيلي أكثر من (7,182) مجزرة ضد العائلات الفلسطينية، حيث لم يبق من هذه العائلات أي فرد، وفقاً لذات الاحصائيات الرسمية.
كما أورد المكتب في بياناته اليومية، أن ما يقدر بنحو (3,471) عائلة فلسطينية أبادها الجيش الإسرائيلي خلال حربه على غزة، حيث لم يبق منها إلا فرد واحد فقط.