بقلم : د. أحمد رفيق عوض
أعترف أنني لا أحتمل كل هذا الدفق من الصور والمعاني والأخيلة التي تتراكض في سهل فسيح على خيول الموسيقى والماء والنور المنثور ، هذا الشعر لا يحتمل لرقته ودقته ودبيبه بين اللحم والعظم ،هذا الشعر كثير حقاً ولكنه قليل أمام فلسطين وأهلها وأشجارها ،هذا الشعر الذي يكتبه الشاعران : المحمود والعامري شعر دهشة وفرح ،شعر احتفال واحتفاء ، شعر تمجيد وتهليل ، شعر محبة وطرب ، شعر فيه تقشف في الكلام وثراء في الصمت، فيه اختصار للصوت وانفجار للخيال ، وكأن القلب يكمل المعنى وكأن ما لم يقل هو الأكثر أهمية ، لماذا أبدو متحمسا لهذين الشاعرين ؟! أبدو كذلك لأنني أحبهما وليس هناك أكثر من هذا صراحة ووضوحا ، ولكن هذا لا يكفي فأنا أكتب عنهما للقراء ، للمعارف والأصدقاء ، وبالتالي أنا مجبر على اثبات هذه الحماسة وهذا التحيز. والشعر كله حماسة وتحيز وكله اصطفاف وعزف وانتماء، ليس هناك شعر بارد أو مجفف أو معقم.
الشاعران المحمود والعامري شاعران رعويان . يخرجان من المدينة إلى البراري حيث تحصل الأساطير وتكتب البطولات وتكتسب الجماعة مزاياها وتكتب امجادها ، البراري وحدها تصنع الأسطورة الحية المؤسسة للجماعة وحيث الانسان يؤاخيها ويناجيها ويختبئ في ضلوعها وجذوعها .
أما يوسف المحمود فمنذ "زغاريده على بوابة الصباح" مروراً بحجر الوحش" وانتهاء "بأعالي القرنفل" فقد صاغ قصيدته الرعوية الخاصة ، بتلك الاناقة اللغوية والنقاء المعنوي وذلك الاحساس الصافي والاشتباك الكبير مع موجودات البر ومخلوقاته ، قصيدة الراعي التي اقترحها المحمود كانت ايضاً قصيدة الرائي بالمعنى التوراتي ايضاً ، اقصد الراعي المحب والمنتمي وصاحب الرأي ، فهو يخرج إلى البراري ليكشف عن قبحٍ يقترب وشر يدق الأبواب ، قصيدة يوسف المحمود قصيدة خاصة في شعرنا الفلسطيني ، فقد اختار البراري للكشف والرفض والتعرية وتمحيص المشهد ، اختار أن يكون الراعي البعيد المتقشف الذي يحيا مع التلال بما فيها من عشب وضوء على أن يكون شريكاً فيما يجري في المدينة .
وأرى أن المحمود بهذا الخيار – أقصد أن يكتب القصيدة الرعوية – استطاع أن يجمع ما بين الموقف الجمالي والموقف الفكري. ابتعد عن المباشرة أو الخطابة أو الفجاجة في القول، اكتفى بالتلميح وقنع برسم عوالم مفقودة تم اغتيالها معنوياً ومادياً ، وقصيدة المحمود أنيقة وقريبة ولغتها مألوفة ولكنها تتحول بفعل هذه الألفة إلى خيال عجيب يحمل معه دلالات بالغة الثراء ، وأعتقد أن هذا من مميزات قصيدة المحمود ، أقصد بساطتها الكثيفة وقربها الغني بعيداً عن الغموض أو التشبه به ، فالراعي أو الرائي يغني لمكانه وأهله والمخلوقات التي حوله لأنه يحب أولاً ، ولأنه كذلك ، فهو يختار من الكلمات ما يجعلها حارة بما يكفي لتفعل افاعيلها، انجذاب المحمود إلى البراري باعتباره موقفا جمالياً وفكرياً و نضالياً قاده إلى أن يبحث في اللغة وتحولاتها، فكان أن أصدر معجمه الكنعاني في خطوة مثابرة و دؤوبة ولم تكن مفاجئة لشاعر منشغل بتمجيد مكانه وجماعته، وفي هذا المعجم الذي أخذ من وقت الشاعر وجهده الكثير، أثبت أن لغة هذا المكان لغة واحدة ومستمرة ومتواصلة بتواصل التاريخ وتجاور المكان .
أثبت في معجمه هذا أن لغة أهل المكان واحدة مهما تعددت لهجاتها مما يدل على التاريخ الواحد والجذر الواحد في ردٍ على الأطروحات الاستعمارية التي رأت في هذا المكان مجرد حيز تعايشت فيه قبائل وشعوب متنافرة لا يجمع بينها جامع ثقافي أو عرقي .
المعجم الكنعاني الذي وضعه يوسف المحمود يشير بوضوح إلى أن لهجات الناس في اقليمنا هذا إنما تعود إلى لغة واحدة هي لغة العرب في وطن العرب، وأن أصلنا ولساننا ودمنا وتاريخنا واحد، وهي فكرة من القوة والسطوع بحيث يتنكر لها الأعداء ومن والاهم .
اذاً، قاد الشاعر يوسف المحمود الى التبصر والتبحر في أصل هذه اللغة العجيبة التي تصنع الخيال والتاريخ والأمم، القصيدة الرعوية قادت المحمود إلى أن يرتمي في احضان البحث العلمي لإثبات أن روح هذا المكان واحد بدليل لغته .
أما الشاعر العامري ففي ديوانه فلسطين ياذا فلا يبتعد أيضاً عن عوالم المحمود وآفاقه وخيالاته كلاهما مسحور بالمكان وبالجماعة، العامري يبني عالماً كرنفالياً احتفالياً فيه شلالات من المياه والأشجار والأزهار والأضواء والأصوات وضجيج الفرسان والعرسان والأبطال والأطفال، شلال لا يتوقف من الأصوات و الأغاني والزغاريد ورنين الأجراس المعلقة في رقاب الخراف العائدة إلى حظيرتها مساء، في هذا الديوان العجيب هناك استحضار لتفاصيل الحياة الأولى بروائحها وألوانها وأصواتها وطعومها، وهناك إعادة توليف للحكاية الأولى التي تناسل منها هذا الذي نستمد منه الهوية والمرجعية . هذا ديوان رعوي آخر يعود إلى البراري أيضاً لاستعادة الطعم الأول والمعنى الأول والحكاية الأولى، الراعي هنا أيضا رائي بمعنى أنه يؤطر الملامح ويحدد المرجعيات ويشير إلى الطريق .
لغة العامري مزركشة فيها طرب ورقص، وفيها حركة تكاد تأسر الجسد وفيها ألوان كثيرة، وكل ذلك مصوغ بجملة مموسقة ذات ايقاع وتأثير . لماذا أعبر عن انحيازي للشاعرين، لأنهما يذكرانني أيضاً بروايتي "بلاد البحر " رواية الأشجار والأعشاب والبشر.