بقلم: د. صبري صيدم
يبدو أن دونالد ترامب سيبقى المادة الدسمة لمقالي الاسبوعي إلى حين مغادرته كرسي السلطة، فكلما أجد لنفسي موضوعاً مغايراً لمقالٍ جديد بعيداً عنه، يعود الرجل بأفعاله ليدفعني هو نحو عنوانٍ وكلماتٍ متجددة مرتبطة به، لا حباً بما يفعله، ولكن استغراباً لهذا النهج المتواصل من الاستعداء لدولٍ مختلفة من الصين إلى المكسيك، ومن غرينلاند إلى جنوب افريقيا.
ثلاثة أسابيع من عمر ترامب في السلطة، وفي ولايته المتجددة وعودته لكرسي الحكم، قلبت الدنيا رأساً على عقب، فمع كل صباح ترى الرجل ينتقل وعلى الريق من حرب إلى حرب. فهذا الرجل الذي ادعى بأنه رجل السلام، لا يفوت فرصة إلا ووضع سلام الناس ومجتمعاتهم في مساحة التهديد. وهذا الرجل الذي قال إنه لا يريد أن يشعل حروباً، بل جاء ليطفئها، يشعل حروباً كل يوم وأحياناً كل ساعة، حروباً لا تنتهي، وأحداثاً لا تتوقف.
رجل يتصرف وفق عقلية الاحتجاج وعدم الرضا والرغبة الجامحة في تغيير الكون لو استطاع. فحروب ترامب لا تقتصر على الخارج، وإنما داخل أمريكا أيضاً مع تسريح الموظفين الفيدراليين جميعاً، وطرد موظفي وكالة الإغاثة الأمريكية، وتصفية هذه الوكالة برمتها.
حرب، حرب، حرب هي تلك التي ينسجها ترامب على طريقته وضمن قناعة قائمة على كونه سيد الكوكب الذي هبط على كرسي حكم، بقدرات مالية وعسكرية هائلة أعطته الشعور بأنه قادر على نسج عالم جديد. عالم يرفض معه أية قيود وضوابط تضعها المؤسسات الإنسانية والصحية والبيئية والحقوقية والعسكرية والإغاثية والسياسية.
فلا لحلف الناتو، ولا لمنظمة الصحة العالمية ولا لمجلس حقوق الإنسان وبروتوكول باريس ومحكمة الجنايات الدولية، ولا لوكالة المساعدات الأمريكية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). لا للصين والمكسيك وكندا وبنما والدنمارك وجنوب افريقيا، ولا لمحفظة إغاثية بقيمة 28 مليار دولار سنوياً كانت تنفقها الوكالة الأمريكية على مشروعات عدة حول العالم.
ترامب الذي تستهويه الصفقات، يريد صفقة في كل اتجاه مستخدماً اسلوب الكر والفر، فيرفع الضرائب على المكسيك لتأتي الأخيرة لتقر بدفع 10 آلاف جندي نحو الحدود لمنع تدفق اللاجئين عبر حدودها إلى أمريكا، فيعلق ترامب قراره برفع الضرائب لمدة بسيطة. يرفع الضرائب على كندا فتقر الأخيرة إجراءات تجميلية معينة، فيعلق هو إجراءاته لفترة محددة أيضاً.
وبين هذا وذاك يسعى ترامب لمساعدة نتنياهو في تحقيق حلمه بشرق أوسط جديد عبر تعزيز إزاحة الفلسطينيين والضغط على مصر والأردن لقبول مطلبه بتصدير الفلسطينيين إلى أراضيهما، وتحويل قطاع غزة إلى منتجع سياحي يتحول معه الفلسطينيون إلى عمال على أرضهم، وفي مجالات محددة. ويسعى ترامب أيضاً إلى توسيع مساحة دولة الاحتلال، عبر ضم الضفة الغربية، وتعزيز قبول إسرائيل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً عبر استكمال خطوات التطبيع، وفتح خطوط التجارة اللامتناهية وإحكام السيطرة على غاز غزة.
وبين هذا وذاك ينتظر ترامب أن تدفع السعودية مبلغ 600 مليار دولار للاستثمار في بلاده، وأن تُجبر شركة التيكتوك العالمية على أن تُباع لمستثمر أمريكي، وأن تحول عائدات قناة بنما للخزينة الأمريكية عبر مشغلٍ أمريكي، والقائمة تطول.
وبهذا فقد تحول العالم إلى مشروع استثماري ضخم يقوم على قاعدة: إدفع تسلم، بينما باتت إرادات الشعوب والدول المستهدفة رهينة بيد سيد البيت الأبيض، كما يحلو له أن يعتقد، حتى أنه يريد لجغرافيا دولة الاحتلال الإسرائيلي أن تتوسع لا على حساب جغرافية أمريكا، حيث يستطيع أن يوسعها، بل على حساب أراضي الفلسطينيين وأملاكهم وأحلامهم وأحلام أبنائهم.
لن يبق في جعبة ترامب أية قرارات يأخذها عند وصوله إلى حد الإشباع، سوى قرارات بالتراجع عن قراراته الحالية بعد أن يكتشف أن قوة المنطق، لا بد أن تتغلب على منطق القوة… فهل يكتشف وهل يقتنع؟ ننتظر ونرى...