الجمعة: 21/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

"الفقدان" يسرق قلب هنادي وحياتها

نشر بتاريخ: 17/02/2025 ( آخر تحديث: 17/02/2025 الساعة: 13:13 )
"الفقدان" يسرق قلب هنادي وحياتها

غزة- معا- ابتسام مهدي - تعجز وفاء عن وصف والدتها، إذ كانت تقبل يديها ورأسها خلال إجراء المقابلة الصحفية.

الصحفية هنادي شهاب (45 عامًا) أطلقت تنهيدة قبل أن تبدأ الحديث، وكأنها تحاول إخراج بعض الألم من قلبها، تقول: "بعد انفصالي عن زوجي عام 2019، قررت أن أعيش مع أهلي في شارع الوحدة وسط مدينة غزة، كان أولادي يقسمون فترات معيشتهم بيني وبين والدهم، الذي يسكن في منطقة الشيخ رضوان، بينما ابنتي متزوجة وتسكن في منطقة الزيتون بشارع صلاح الدين، خلال تلك الفترة، كنت أعمل مع الشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام، وكان دوامي يوميًا في مستشفى الشفاء لتغطية الأحداث".

ترجع هنادي بذاكرتها إلى الوراء، لعلها تستطيع، تأخذ نفس أعمق، تقول: "في تاريخ 29 أكتوبر 2023، استشهد زوج ابنتي فارس طافش أثناء عمله، حيث أصابته شظايا صاروخ في الصدر والرقبة أدت إلى استشهاده عن عمر 30 عامًا".

كانت هنادي تجلس في ساحة مستشفى الشفاء تتابع الأخبار، حينما سمعت أنباء عن وجود شهداء من منطقة الزيتون، فانتفض جسدها، تضيف: "ذهبت مسرعة إلى ثلاجة الموتى، تجمدت مكاني عندما رأيته ملقى على الأرض، حاولت أن أتماسك"، تكمل حديثها ورأسها مليء بالأفكار: "كيف أخبر ابنتي؟ من سيعتني بها؟ إنها حامل في الشهر السادس، هل سيؤذيها الخبر؟ أسئلة كثيرة راودتني".

لم تقف هنادي طويلًا أمام ثلاجة الموتى، بل أرسلت الخبر وتفاصيله، ثم توجهت إلى منزل ابنتها، تقول: "كانت ابنتي منهارة تمامًا أسرعت لاحتضانها وهي تتحدث بلغة غير مفهومة من شدة البكاء، حاولت أن أواسيها، لكن لا توجد كلمات تعبر عن حجم المأساة، كنت فقط أحضنها واطبطب على ظهرها كانت تبكي حتى تنهار قواها وتضع رأسها على حضني لتكمل ما بدأت فيه، حاولت أتحدث معها ولكنها لم تكن تستوعب ما أقول".

في تلك الفترة، كانت هنادي تقسم وقتها بين العمل والجلوس مع ابنتها أطول فترة ممكنة، تضيف: "عشت ضغطًا نفسيًا شديدًا، لكن الجيش الإسرائيلي لم يترك لنا متسعًا من الوقت حتى نبكي ونحزن، استهدف صاروخ منزل والد أبنائي، وهو من عائلة أبو غليون".

تلقت هنادي الخبر وهي على رأس عملها مرة أخرى، تقول: "عندما سمعت عن استهداف المنزل، دعوت الله أن لا يكون منزل والد أبنائي، كنت أنتظر أمام قسم الطوارئ، وقلبي يكاد يخرج من مكانه"، لتكون الصدمة الثانية، تكمل:" قلت في نفسي، وأنا أضع يدي على فمي حتى لا يسمع الآخرون بكائي، إنهم أقارب زوجي، لقد استشهد هو وعدد كبير من أقاربه".

خرجت هنادي من القسم تبكي، "كان الخبر صعبًا جدًا عليّ وعلى أولادي، وبخاصة ابنتي التي كانت ما تزال تحت صدمة استشهاد زوجها، تلقت بعدها نبأ استشهاد والدها، وكانت المدللة لديه، لا يمكن وصف حجم الألم الذي أصابنا كانت ابنتي يغني عليها من شدة البكاء أبني الصغير رفض تناول أي طعام وشراب لعدة أيام".

لم يتوقف الألم هنا، تكمل هنادي: "كانت هذه الأيام من أصعب الأيام التي مرت عليّ، لم أكن أستطيع التعبير عما يحدث لي، لأ تلقي صدمة جديدة؛ فبعد سبعة أيام من خبر استشهاد والد أبنائي، شاهدت ابني الصغير، آخر العنقود، محمولًا على الأكتاف، لقد أصابته رصاصة في قلبه".

قبل دقائق من استشهاده، تقول هنادي: "كان يزورني ليُريني قصة شعره الجديدة اثنيت عليها وحضنته وقبيلته، ثم خرج مسرعًا، سمعت صوت إطلاق نار من طائرة كواد كابتر الإسرائيلية، وخزني قلبي، حدثت ضجة، وسمعت أحدهم يقول إن شابًا قد أصيب، وقفت لألمح الشاب، تسارعت نبضات قلبي وتنفسّي، إنه أبني، كان محمولًا على الأكتاف".

حاولت هنادي الوصول إلى أبنها ولمسه، لكنها لم تستطع بسبب سرعة حركة الشباب، تقول: "حاولوا إيصاله إلى قسم الطوارئ لإسعافه، أسرعت خلفهم وصرخت: إنه أبني! حاول الجميع تهدئتي، لكنني أطلقت صرخة سمعها كل من كان في المستشفى، عندما قالها الطبيب: للأسف، لقد استشهد".

لم تتحمل قدماها هذه الصدمات، فانهارت مغشيًا عليها،تقول: "رغم حجم الألم الذي لا يمكن وصفه، كان كل تفكيري في ابنتي، لم أستطع في ذلك اليوم تغطية الخبر، عدت إلى المنزل وأنا في عالم آخر، شاردة ومنكسرة بنفسيه مدمرة،الجميع حاول مواساتي، لكن حجم الفقد لم يترك مكانًا لأن أكون قوية، لأول مرة أرتمي في حضن ابنتي وبدأت في البكاء لا أعلم متي انتهيت كانت تمسح على رأسي شعرت بسخونة دموعها لأنام في محاولة للهروب مما حدث".

أصبحت هنادي تشم رائحة الدم في كل مكان وترى من فقدتهم أمامها، ترتجف عند سماع أي صوت، تقول: "كان لديّ هوس فقدان باقي أفراد أسرتي، أسرعت في دفن أبني وقلبي معه، وقررت النزوح إلى جنوب قطاع غزة بحثًا عن الأمان".

نزحت هنادي أكثر من مرة، من مخيم البريج إلى خان يونس، ثم إلى رفح، وعادت إلى خان يونس ومنها إلى دير البلح، تكمل: "لم أستطع السيطرة على أعصابي خلال تلك الفترة، لقد فقدت الكثير بل فقدت كل شيء، ومن بينهم عملي أيضًا، ضاع مصدر دخلي مع ضياع اللابتوب خلال أحد النزوحات".

لم يسمح الجيش الإسرائيلي لهنادي أن تعيش فترة من الهدوء لتكمل فيه ألم الفقد، تقول: "كان يُفرض علينا النزوح كلما حاولنا الاستقرار وتقبّل الواقع الصعب، حاولت البحث عن فرص للعمل، فأنا المسؤولة عن توفير كل احتياجات من بقي معي، وهم ابنتي وطفلها، وابني وزوجته وطفلهما".

تضيف، وهي تطلق زفرات من التنهيدات: "المسؤولية كبيرة جدًا على عاتقي، حاولت أن أكون مثالًا للمرأة الصابرة، ونجحت كثيرًا، لكنني انهرت في بعض الأيام، أحاول تكرارًا ومرارًا أن أصمد وأوفر لعائلتي احتياجاتهم، فهناك طفلان يحتاجان للكثير من الأمور، وما زلت أبحث عن عمل".

العيش داخل الخيمة، غير كثيرًا في هنادي، وتقول:" ما بين توفير الماء المالحة والصالحة للشرب، وإشعال النار لإعداد الطعام وضغوطات شراء الاشياء ذات الأثمان المرتفعة، كل ذلك يجبرك على أن تكون شخصًا مختلفًا، كثيرًا ما أبحث عن نفسي القديمة لكنني لا أجدها، لقد كان والد أبنائي هو من يتحمل كل شيء والآن اختلف الأمر".

وتتحدث ابنتها وفاء (29 عاما) عن الأم هنادي بعدما ما مرت فيه من ظروفًا قاسية ومعاناة غير مسبوقة، "وجدت أمي نفسها خلال أيام أمام طوفان من المسؤوليات الإضافية والجديدة، لم تغرق أمي فيها بل صنعت لنفسها سفينه بيدها، وحاربت لتنحوا بنا وبأحفادها".

وتعتبر وفاء أن والدتها قدمت خلال الفترة الماضية دروس للتضحية والصبر والصمود وسط آلام فقد الابن ووالد أطفالها وزوج ابنتها الوحيدة، مع تحمل النزوح عدة مرات تحت القصف والغارات المستمرة من جانب جيش الاحتلال الإسرائيل، وكل هذا إلا أنها" ما زالت تواصل العمل يوميًا، لتلبية كل احتياجاتنا".

وتضيف:" لقد فرضت الحرب الإبادة الإسرائيلية على أمي شكلاً جديدًا من الحياة، حيث تجاوزت أدورها الأمومة والرعاية والاهتمام بأبنائها لتشمل تقمص أدوار والدي وزوجي اللذان رحلا شهيدان، لا يوجد كلمات تعبر عن شكرنا لها أنها فعلا أيقونة بالنسبه لنا ويجب تكريمها".