بقلم: نداء يونس
لم يكن كافيًا أن يدمي الجسد،
وإهانة الناجين،
والذكريات؛
كان لا يزال من الضروري تدنيس الأنقاض
والقبور التي اختفى تحتها الآلاف،
ومحو رمز شجرة الزيتون،
فيليب تانسلين
6 فبراير 2025
أمام الوحشية المتواصلة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وفي ظل العنف المتواصل والدمار، و"بالنظر إلى السياق التاريخي من الشقاء الذي يعيشه العالم، سواء على صعيد الصراعات الفكرية، أو الصراعات المسلحة، التي تسيطر عليها إمبراطورية التجار، سواء كانوا تجار الأسلحة أو المفاهيم"، والتي تنعكس "من خلال السيطرة المتزايدة على اللغة، ومعنى الكلمات، والتسليع المفرط للمفاهيم"، تصبح المقالات والنصوص الشعرية التي يكتبها كتّاب عالميون للتعبير عن آلام الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، أداة مقاومة، ووسيلة لمواجهة العنف التطهريِّ، وإبراز جمال وصخب الحياة في مواجهة "الخصم المختبئ خلف درعه الواقي"، وأداة لا غنى عنها في توثيق المعاناة، ورفع الصوت الرافض للاحتلال وللانحياز له، إضافة إلى كونها عنصرًا أساسيًا في حركة المقاومة الروحية والثقافية.
ينعكس هذا بشكل واضح في أعمال فيليب تانسلين، الشاعر والفيلسوف الفرنسي الذي دمج الشعر والفلسفة والمسرح مع السياسة في أعماله، وتلك التي كرسها على مدار خمسة عقود للكتابة عن فلسطين، وخاصة أنطولوجيته الذاتية "عن فلسطين الأبدية - والقصيدة ظلها 1982-2024"، الصادرة عن دار هارماتان في باريس، 2024، والتي قدّم من خلالها رؤيته للشعر كفعل يتأثر بالفوضى ويشجع على التغيير المستمر؛ فالشعر بالنسبة له أكثر من مجرد كلمات على ورق؛ فهو مساحة حية تتحرك فيها الكلمات مثل كائنات درامية. كما أن الكتابة الشعرية هي عمل مسرحي، حيث الكلمة ليست مجرد وسيلة لنقل المعنى، بل كائن حي يدخل في تفاعل مع الآخر. يعزز هذا التصور من قدرة الشعر على تجاوز التعبير عن الذات، ليصبح وسيلة للتفاعل الدائم مع الواقع السياسي والاجتماعي وأداة لتغييره.
تجسيد فلسفي وعاطفي لآلام الشعب الفلسطيني وتضحياته ومقاومته
خلال سنوات طويلة في الساحة الأدبية والفكرية، نشر تانسلين، الذي أسس إلى جانب نشاطه السياسي، مع شقيقته جينيفيف كلانسي وجان-بيير فاي، المركز الدولي بين الجامعات لإبداعات الفضاءات الشعرية (CICEP)، الذي جمع العديد من الشعراء والفنانين والباحثين في أبحاث متعددة التخصصات، لاستكشاف العلاقة بين الشعر والفن والحياة الاجتماعية. كما أخرج عددًا من الأفلام متوسطة الطول التي تمتاز بطابع شعري-سياسي، ليضيف بذلك بعدًا جديدًا في طرق التعبير الفني. كما قام أيضًا بإدارة ثلاث مجموعات شعرية منذ عام 2005، وأسهم في تأسيس "شعراء القارات الخمس"، وهو مشروع شعري عالمي يجمع الشعراء من مختلف أنحاء العالم. لم يتوقف تانسلين عند ذلك، فبالإضافة إلى اهتمامه بالشعر من خلال أعمال مشتركة مع فنانين، بما في ذلك كتب فنية، أصدر تانسلين ما لا يقل عن 27 كتابًا تجمع بين الفلسفة والشعر. ومن أبرز أعماله التي تناولت فلسطين الأنطولوجيا الذاتية "عن فلسطين الأبدية - والقصيدة ظلها 1982-2024"، التي تضم مقالات فلسفية بلغة شعرية عالية وقصائد كتبها الشاعر بين عامي 1982-2024، تبرز فيها الكتابة كأداة مقاومة.
هذه الأنطولوجيا ليست مجرد مجموعة من النصوص الشعرية، بل هي تجسيد فلسفي وعاطفي لآلام الشعب الفلسطيني وتضحياته ومقاومته والخذلان الذي يتعرض له، خاصة في ظل الحرب المستمرة على غزة. يستند الشاعر في ذلك إلى الثقافة والفن، الذي يقول "إنّنا اعتقدنا أنهما سيكونان محميين إلى حد ما" من التسليع و"بيع وشراء الاتصال ... شراء الآخرية، والتفوق". فالشعر والكتابة هنا حاملان للذاكرة الجمعية الفلسطينية، ووسيلة لتوثيق الصراع المستمر، سواء من خلال التعبير عن الألم اليومي الذي تسببه الحرب، أو تحول الكلمات نفسها إلى سلاح في مواجهة الاحتلال، وأداة أساسية لنقل معاناة الشعب الفلسطيني والتعبير عن الخذلان، "ذلك الظل الذي يخفى الإنسان، خلف زيه العسكري، إلى أولئك الآخرين، الجبناء المتواطئين مع محاكم الصمت، الذين يسيئون لذكريات الإنسانية". إنها كتابة بين الحياة والموت من خلال أسئلة الوجود، والأرض، والهوية، والمقاومة والفن.
"فلاح الكلمات" و"شاعر الحدث"
التقاطعات بين السياسي والشعري في أعمال تانسلين يمكن فهمها من خلال تتبع تأثر تانسلين، الذي درس السينما ثم تحول إلى الفلسفة ليحصل على دكتوراه دولة من السوربون بعنوان "العنف والمسرحية"، وليدرَّس الفلسفة والجماليات فيها قبل أن يصبح أستاذًا للمسرح والشعر في جامعة باريس 8، بالظروف الاجتماعية والسياسية في فرنسا عام 1968. الشاعر الذي أُطلق عليه العديد من الألقاب مثل "فلاح الكلمات" و"شاعر الحدث"، عُرِف أيضًا بنشاطه السياسي والاجتماعي في حركة "السترات الصفراء" التي انتقدت النظام السياسي والاجتماعي في بلاده، "سواء كنا تحت نظام استبدادي أو ما يُسمى ديمقراطية، كم تبقى من حجم الاستماع إلى أصوات الشعوب؟"، و"كم من عشرات الآلاف من القتلى يجب أن نرى لكي يمارس هؤلاء الحكام ضغطهم على حكام الشرق الأوسط الذين يشنون الحروب ليتوقفوا عن جرائم الحرب؟". فبالنسبة له، تمثِّل الاحتجاجات لحظة شعرية حية، حيث يحدث التغيير الجذري المفاجئ، تمامًا كما في النصوص الشعرية التي تفاجئ القارئ بتناقضاتها وعلاقاتها غير المتوقعة.
تسلِّط هذه الأنطولوجيا الضوء على الكارثة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون، لا سيما في غزة التي تعرضت لدمار هائل. في قصيدته "الرعب... الرعب، القنابل أمام الكلمات"، يرى الكاتب الحرب بوصفها جريمة تتجاوز الأبعاد العسكرية لتصل إلى تهديد جوهري للإنسانية نفسها: "الرعب يكمن في أن القوة تفرض العجز على الشهود بقدر ما تفرضه على الضحايا". الكاتب، الذي يُعبِّر عن حالة من العجز أمام القصف المدمر، يطرح من خلال كتابته تساؤلات وجودية وفلسفية عن معنى الحياة والموت في ظل هذا الصراع المتواصل.
الحرب لا تقتل الإنسان جسديًا فقط بل تقتل روحه أيضًا
في مقالته: "كيف نفكر أثناء وبعد غزة؟"، مثلًا، يُعبِّر الكاتب عن شعور بالخواء الوجودي في مواجهة هذا الكابوس المستمر، وحيث أن "الحرب لا تقتل الإنسان جسديًا فقط، بل تقتل روحه أيضًا"، وهو بذلك يقدم تساؤلات عن قيمة الكلمات والفن أمام مشهد القتل والدمار المستمر. وللإجابة عن ذلك، يؤكد الكاتب أنه فضلاً عن أننا "نقرأ ونعيد قراءة الرابط الذي يجمع الشعر الفلسطيني بالشعب الفلسطيني، كما كان الحال في الماضي مع الفرنسيين المقاومين، مثل فيلون، هوغو، وأليوارد"، يرى تانسلين أن شعر الحب الفلسطيني، أو ما تكتبه شاعرة لحبيبها، يتجاوز كونه "مجرد جمال في التعبير، ووسيلة للإفصاح عن المشاعر أو إعلانٍ للميل، أو للهروب قليلًا من الواقع لتحمل قسوته اليومية، بل هو علامة على هذا العمق الإنساني الذي لا يمكن اختزاله إلى الحالة التي يحاول الآخرون فرضها عليه [أي على الفلسطيني/الشاعر] عبر الأفعال أو الكلمات التي لم يخترها بحرية، بل فرضت عليه".
كما تكشف قصائده عن معاناة وجودية عنيفة. إذ تنقل كلمات شعره إحساسًا بالقسوة والظلم، وتسلط الضوء على الحرب كإغراء قاتل، حيث تتقاطع الأفكار والمشاعر داخل مشهد من الخراب والعنف الذي يظل يخيم على الأرض والشعب: "هناك ما يكفي للموت، بكلمة، بنظرة، انتماء طبقي، بملف شخصي، بعزلة على بعد عشرة آلاف. هنا، من يوم صغير إلى يوم صغير، من حرب صغيرة إلى فرصة صغيرة، العمى يعرض علينا رؤاه المشتركة، على الطرق الطويلة المزينة بسماء من نار، تتداخل الكلمات القاسية، وتتمزق الأحلام المُقزمة". بالمقابل، تثير قصائده الأمل المرتبط بتجارب المقاومة ضد الاحتلال في فرنسا نفسها، فهذا الشعر: "يُغذِّي أمل الأيام التي سيحب فيها الناس بعضهم البعض، كما غنى لويس أراغون في فرنسا". كذلك، يستحضر شعره "حاجة الفلسطينيين للحرية كما كتب بول إيلوار في دفتره وهو يوجه رسالته لشعبه الذي كان تحت الاحتلال". يقول تانسلين في قصيدة بعنوان "ماذا يعني ألا تفقد حياتنا": "إذا لم نرد السقوط عند الفجر، سيتعين علينا أن نغني أعلى من الطيور، نشق الليل بأنوار غير مرئية، نخرج المنفى بكلمات مستعارة من المعنى، ... التاريخ الواقف على رغوته، سَيَجْعَلُ رِحْلَةَ الْبَائِسِينَ إِلَى صُرَاخِهِمْ، شيء من أغنية العتبات"، وفي أخرى بعنوان "من أجل شيرين أبو عاقلة" يقول: "اسمي فلسطين، [التي] لا تُهزم عبر العصور والأزمنة".
الموت لا يوقف القصيدة التي يجري بها النهر
بهذه الحركة، بين الألم والأمل، تتحول كلمات الكاتب والشعراء الفلسطينيين، والتي قد تبدو عاجزة عن التصدي للقتل، إلى إعلان مقاوم يدفع الرداءة والجرائم التاريخية إلى موطنها الأصلي، أي البربرية، كما تتحول إلى أداة لتأكيد المطالب الوطنية بالتحرر، وعدم المساومة على النفس أو المراهنة على التكيُّف مع ما يحدث. ففي مقالته "موت الكتاب والشعراء: نور الدين حجاج ورفعت العرير"، يستحضر تانسلين الشعراء الفلسطينيين الذين كانوا رموزًا للمقاومة الثقافية، "كان نور الدين يشرح لماذا يرفض مغادرة أرضه، رغم خطر الموت، ولماذا يصر على البقاء في غزة". يرى تانسلين أن الكتاب والشعراء في فلسطين لا يمثلون أدوات تعبيرية فقط، بل جزءٌ لا يتجزأ من روح المقاومة. وإذ قتل الاحتلال العديد من الكتاب والشعراء أثناء الحرب، تبقى الكتابة حية في أذهان الناس كجزء من هويتهم الثقافية المستمرة، فـ "الموت لا يوقف القصيدة التي يجري بها النهر، الذي لا يتوقف عن الانعكاس، وبعيدًا عنه، يكون الباب المؤدي إلى الواقع".
كذلك هو الفن. في بداية الحرب، عمل الفن من خلال "التشويه البصري للقصف" كما يقول الكاتب على تحويل صور القصف والتفجير والأدخنة السوداء إلى أداة لتبديل صورة الفناء بـ "قبضة يد مغلقة، خيول هائجة، صعود ملاك، وجه من الأجداد، "بييتا" (موضوع من مواضيع الفن المسيحي النحتيِّ، غالبًا، يصور مريم العذراء محتضنة جثة يسوع)، تَظْهَرُ من أعمدة الدخان وتكتب في السماء حدودًا لشيءٍ لا يُقْهَرْ". يكشف هذا عن الأمل والتحدي ضد العنف، فقد يكون "الدخان الأسود الكثيف ... علامة على حرق الأجساد الحية والميتة، لكن عمود الدخان لم يعد يظهر كحريق مادي، بل كوجه بشريٍ يتحول إلى مشعلٍ على المحارق".
ومن النقاط الرئيسية التي تتكرر هنا شعوره بالإحباط من المجتمع الدولي: "على قمة ما يُسمى بالديمقراطيات، ترفرف لافتة الصانع الحربي"، ومن التغطية الإعلامية: "عند نشر صور التقارير، لا نعرف نوع الهدف. يمكننا أن نتخيل محطة كهربائية، أو مخزن ذخيرة أو وقود. ثم تتضح المعلومات. الأهداف هي منازل، مساجد، شوارع، مدارس". وهنا يتساءل تانسلين: "أي فقدانٍ تامٍ للأخلاق من قبل حكام هذا العالم يمكن أن تتحمله الشعوب؟ أي ثقة يمكن أن تبقى بين الشعوب وممثليها في مثل هذه الظروف، تحت مثل هذا الازدراء للإنسانية؟ ويؤكد أننا لم نعد "في حالة بحث عن توازن أو حتى محاولة لتحقيق إنسانية، عندما يكون هناك نظام واحد فقط يهيمن: نظام تشجيع الجريمة أو، في أفضل الأحوال، تجاهلها وتركها تفسد الأمور". في مقالة "من اللامسمى... أو: كيف نفكر أثناء وبعد غزة؟"، يشير الكاتب بوضوحٍ إلى ازدواجية المعايير التي يمارسها الغرب عندما يساند الاحتلال الإسرائيلي بينما يتظاهر بالحرص على القيم الإنسانية ويرفع شعارات حقوق الإنسان. يغيب موقف الغرب الفعلي تمامًا أمام الجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، ولا نجده يرفع "تلك الصرخة العالية للتحذير مما يجب تسميته، "الاضطهاد"، اضطهاد شعب كامل تم تهجيره أو طرده من أرض فلسطين منذ عام 1948، ومنع من إقامة دولة ديمقراطية ذات سيادة، [شعبٌ] تم خداعه طوال العقود الأربعة الأخيرة، بالاستيلاء على أراضيه، وتجفيف أو تلويث آباره، واعتقال مقاوميه بشكل تعسفي، واحتجاز جثثهم، وفرض الحصار".
عندما نرسم الحرية، تكون الكلمات ملطخة بالدماء
يضاف إلى هذا، الاضطهاد، تلك "الوحشية التي يمارسها جزء كبير من الغرب وأوروبا من خلال دعمهم العسكري وتشجيعهم للحرب التي يخوضها المحتل". هذا التواطؤ المفضوح يُظهر أن السياسة الدولية، وخاصة في الغرب، تتعامل مع الشعب الفلسطيني كأقلية غير جديرة بالاهتمام، كما يجسد التناقض في موقف الحكومات الغربية التي تستمر في دعم الاحتلال العسكري، بينما يظل الشعب الفلسطيني يتعرض للتصفية الجماعية دون أي تدخل فعّال. و"في مواجهة هذا الانهيار للإنسانية، لا يتعلق الأمر فقط باحترام الضمائر الأخلاقية والفكرية، بل بما يضعنا بشكل فعلي إما في مجتمع الجلادين أو في مجتمع الضحايا، لأنه لا يمكن أن تكون هناك وسيلة وسطى في تقييم الوحشية. ما الذي يفعله اليوم ما يسمى بـ "المتحضرين من أصحاب الأنوار" وأتباعهم؟".
إحدى المواضيع الرئيسية في الأنطولوجيا هي العلاقة العميقة بين الفلسطينيين وأرضهم. إذ يُؤكد أن الأرض ليست مجرد مكان للعيش، بل هي جزء لا يتجزأ من هوية الشعب الفلسطيني، وجزء من مقاومة ثقافية مستمرة. فالأرض لا تقتصر على كونها مكانًا للعيش، بل هي ذاكرة حية تحمل في طياتها تاريخًا طويلًا من الصمود والمقاومة: "من كان في العالم ليصدق أنه عندما نرسم الحرية، تكون الكلمات ملطخة بالدماء؟".
كأي شاعر فلسطيني، يراوح فيليب تانسلين في أنطولوجيته بين الموقف الأخلاقي الواضح والمساءلة والتوثيق وإعلاء دور الثقافة والفن والجمال في مواجهة القبح والوحشية والاحتلال والازدواجية الأخلاقية للعالم والإعلام، كما يقدم رسالة أمل وقوة في مواجهة الظلم، مؤكدًا أن الكتابة ليست مجرد وثيقة تاريخية أو وسيلة للتعبير عن المعاناة، بل هي أداة فعالة في المقاومة الثقافية.